د. عثمان علي حسن*

مقدمــــة
إن واقع المؤسسات التربوية والتعليمية في بلادنا العربية والإسلامية ليس بالمحل المأمول، ولا بالمكان المحمود؛ ويكفي أن تتعرف على شريحة منها لتنبئك عن البقية، في مناهجها، وعناصرها، ونظم إداراتها، ومدخلاتها ومخرجاتها، وغير ذلك مما لـه صلة.. فهذه المؤسسات بحاجة ماسة ومستمرة للإصلاح والتقويم، والتجويد والتحسين، والتطوير والتعديل؛ حتى تنهض بدورها العظيم في الأمة؛ توجيهاً وإرشاداً وتعليماً وإعداداً، وتزويداً للمجتمع بالكوادر الصالحة النافعة الفاعلة في شتى جوانب الحياة.

وعملية الإصلاح هذه تحتاج إلى تضافر جهود، وإلى بذلٍ وتضحيات، وعزمٍ وصدق نيات، ولا يُنكَر ما قام ويقوم به بعض أهل العلم والفضل والسبق من جهود مشكورة، ومساعٍ حميدةٍ مبرورة، لكن مع ذلك فالساحة العلمية والعملية بحاجة إلى المزيد من الجهود والإضافات، ومشاركتي تأتي فيما له علاقة بالمُعَلِّم الذي هو العمود الفقري للعملية التعليمية والتربوية، أحاول فيها أن أرسمَ صورةً للمعلم المثال، صورةً قابلةً للتطبيق والتحقيق؛ صورةً آمل أن تتصف بالعمق والإحاطة، والتكامل والجمال، للمعلم صانع الأجيال. فمِن بين يديه يتخرج القادة والساسة، والآباء والأمهات، وكل ذي رعية ومسئولية.

ولا بد أن أشير هنا إلى ما استفدته من أمثال بدر الدين ابن جماعة في كتابه: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، والخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ومن المُحْدثين العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: الرسول والعلم، والشيخ محمد بن عبد الله الدويش في رسالته صغيرة الحجم عظيمة النفع: المُدَرِّس ومهارات التوجيه، فقد أفدت من هذه الكتب فوائد جمّة، تستحق التنويه بها، والتشجيع لمراجعتها.

فأرجو أن تكون أوراقي هذه ترجمةً صادقةً لِما أمّلت، وتأويلاً لما تمنيّت، فهو جهد أُضيفه لجهود من سبق، عساه أن يكون زيادة في الخير، وحثاً على السير، وعلى الله قصد السبيل..

أهمية الموضوع: 

إن الناظر في حال مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، أي في حال الأمة جمعاء، يلمح بوضوح أنواعاً من الخلل قد انتظمت كافّة مناحي الحياة وشرائح الأمة، فهذا أمر لا تخطئه عين، إذ هو خلل واضح وقصور فاضح، إنْ كان في الأداء السياسي على مختلف مستوياته، أو في الأداء الاجتماعي على تنوع أحواله، أو في الأداء الاقتصادي في جميع مجالاته.

فهذا حاكم مستبد وصل إلى سُدَّة الحكم على غير رضىً من رعيته، فعمل على كل ما يضمن له الاستقرار والاستمرار على رغم الأنوف، دون مُراعاةٍ لحقوقٍ أو أداء لواجبات، ومثله وزيرٌ لم يُصَدِّق أنّه في هذا المكان حتى أعمته نفسه ومَنْ وراءه مِن أهلٍ وعشيرة عن النظر في واجبات الوظيفة ومتطلباتها، وفي المقابل معارضٌ التزم بالكلمة لفظاً ومعنى، لا يرضى بالحقّ ما دام قد خرج مِن غير إنائه، ولا يؤيد الخير ما دام قد صدر عن خصومه، ولا حرج عنده أن يُدمِّر كل مكتسبات دولته إذا كان ذلك يوصله إلى السلطة، فهو معارضٌ وكفى.

وهذا إعلاميّ همّه الربح المادي أو الشهرة؛ فجعل الإثارة ديدنه، ودغدغةَ الغرائزِ مركبه، غير مبالٍ بقيمٍ ولا أخلاق، ولا وقائعَ ولا حقائق، مجانبٌ للصدق ومعايير المهنة.

وذاك محامٍ تتصارع على لسانه الكلمات، ويلعب بها لياً ودفعاً للحقّ، وهو أول من يعرف أن موكله ليس له في الحقّ نصيب، لكِنّه يسعى بكل جُرأة مستغلاً ما في القوانين من ثغرات ليستخرج لصاحبه صك البراءة المزور.

وهناك يقف رجلُ أمن تصور من نفسه أنه القانون والنظام، وأنه الخصم والحكم، فيرمي بين الناس آلة البطش والقهر، ويوقع فيهم الرعب والخوف بدلاً من الأمن والطمأنينة، دون أن يجد من يردعه أو يحاكمه..

وهذا عالم في علوم الشرع متبحر، ومن تفاصيله متمكن، لكن أحواله وأفعاله تصادم أقواله ومواعظه، أو هو منكفٍ على نفسه يؤدي وظيفته التي أنيطت به في برود مميت، وتخشب معيق، لا يكاد يهتم بما يدور حوله من انفلات أو انقلاب على أمور الشرع.

وهذا زوج عرف كيف يستَلّ هذه الفتاة من أهلها بدفعه المهر، لكنه لم يحسن الاختيار، أولم يحسن المعاملة؛ حتى تحولت الحياة الزوجية من السكينة إلى الرعب، ومن المودّة إلى البغض، ومن الرحمة إلى القسوة، وقد تكون صاحبته وأهلها وراء هذه النتيجة السلبية.

وهناك أبٌ أظهر فحولةً في إنتاج الأولاد، لكنه فشل في تريبتهم وإعدادهم؛ فكل همّه أن يفرغ في أفواههم أطايب الطعام، ويلف أجسادهم بمحاسن الثِياب، غير آبه بما يحيطهم من سيء الأخلاق، والله تعالى يقول: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) [سورة طه: 132].

وهذه فتاةٌ أو امرأة تستجيب بغباءٍ لمغازلة بيوت الأزياء؛ لا تكاد تردّ يد لامس، حتى تجردت تماماً من عقلها وإحساسها وشخصيتها وإرادتها كما تجردت من ثيابها وحشمتها، فهي تلهث في طلب الحرية حتى وقعت في أذل سجن وأخبث قيد.

وهذا تاجر جشع إن أخذ استوفى وأغمض وطفف، وإن أعطى أنقص ودلّس وأخسر، جعل الحلف بضاعته، والغِشّ تجارته، فهو يسلك كل وسيلةٍ لإطفاء نار جشعه.

وهكذا تتعدد صور الخلل في مجتمعاتنا على تفاوتٍ بينها، لتعكس واقعاً مريراً، وتحكي حالةً مزرية. ولا ننكر وجود صورٍ مشرّفة هنا أو هناك فالخير في الأمةٍ باقٍ، لكنها تكاد تنطمس في هذا الركام الآسن، والزحام الغائم، أو أنها لا تمثل أستاذية الأُمة وريادتها التي ينبغي أن تكون عليها.

ولعل تلك الصور السلبية جميعها لا تبلغ ما بلغه الخلل في مهنة التعليم، لأنها نتاجه وإفرازه، فلو تتبعنا هذه الصور السلبية والظواهر الخاطئة باحثين عن أسبابها وعللها، لقادنا البحث والتتبع والقراءة الفاحصة والمتأملة إلى سببٍ واحدٍ، ألا وهو التعليم، فالمرض الذي أصاب هذا الجانب الأساس من حياتنا هو الذي أفرز تلك الصور السلبية التي أشبه ما تكون بأعراض لمرض مركزي، والتي مهما بذلنا في إصلاحها لن نصل إلى غايتنا ما دام المرض المركزي لم تصله يد الإصلاح ومِبضع الجراح.

فالإصلاح في قطاع التعليم يعني الإصلاح في كل القطاعات الأخرى، فهو القلب الذي بصلاحه يصلح الجسد كله، فلا بد من توجيه العناية المكثفة إليه، ولا يعني هذا الانقطاع عن إصلاح القطاعات الأخرى حتى ينصلح القلب (التعليم)، بل ينبغي أن تسير عملية الإصلاح في خطوط متوازية ومتوازنة، مع التركيز على منطقة القلب فهي الرافد الأساس والمحرك الرئيس. والاهتمام بهذه القطاعات مهم جداً أثناء عملية الإصلاح المركزية حتى لا تعوق تدفق الدماء الحارة والمتجددة مِن المركز الرئيس.

وأيضا هناك شكوى عامة قائمة في عالمنا العربي والإسلامي من تدني مستوى التعليم الجامعي، ويعزون ذلك إلى ضعف التعليم العام باعتباره الرافد له، لكننا عند التأمل نجد أن القائمين على التعليم العام ما هم إلاّ متخرجوا التعليم الجامعي، فيعود الأمر جَذَعاً، أو دوراً، فلا بد أن تتسم عملية الإصلاح بالشمولية لجميع قطاعات التعليم؛ حتى يأخذ بعضها بحُجَز بعض.

فدور التعليم إذن جِدّ كبيرٍ وخطير؛ إنْ في الإصلاح وإنْ في الإفساد، فما مِن فردٍ مِن أفراد المجتمع إلا وقد مرَّ بمرحلةٍ أو أكثر مِن مراحل التعليم، قد كان له فيها مُعَلِّم يتلقّى عنه، ويتأثر به، فحاجة الناس إلى المُعَلِّم فوق كل حاجة، ووجوده وأثره في حياتهم ـ إن استغل بالشكل الأمثل ـ بارز وظاهر، فتعليم ناجح يعني مجتمعاً ناجحاً.

وإذا كان التعليم: مُعَلِّماً ومُتعلماً وكتاباً، إلا أن نصيب المُعَلِّم أكبر، فهو إضافة إلى كونه الوَصلة بين المُتعلم والكتاب، فهو أيضا مُربٍّ وقدوةٌ وموجهٌ ومرشدٌ إلى غير ذلك من الصفات التي قد لا تُوجد في الكتاب وحده، وإن وجدت لم يمكن الإفادة منها بالشكل المرجو، ولهذا سيركز هذه البحث الكلام على المُعَلِّم ودوره في العملية التعليمية، وبالأخص على الجانب التربوي منها، باعتباره الجانب الأكثر أهمية وخطورة في الوقت ذاته.

فالتعليم واحدٌ مِن مؤسسات مجتمعاتنا التي أصابها الخلل؛ ذلك الخلل الذي برزت آثاره وصوره المتعددة في باقي مؤسسات المجتمع كما سلف التمثيل لها.

لمن هذا البحث؟ 

هذا البحث مقصود به المُعَلِّم أينما كان موقعه، وفي أي مرحلة من مراحل التعليم يعمل، وكيفما كان نوع التعليم الذي يمارسه، ونوع التخصص الذي يقوم بتدريسه، بل قد يعني كل من يتصدى لعملية التعليم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالأب مُعَلِّم في بيته ومثله الأم، والخطيب وإمام المسجد مُعَلِّم في مسجده، والحاكم ومثله القاضي والمدير معلمون كلٌ في دائرته، وكذا كل مسئول يمكن أن يكون مُعلِّماً لمن هم تحت مسئوليته بنوع من التعليم يتناسب ومهنته ومكانته؛ لأنهم يفيدون من خبرته وتوجيهاته، ومن حسن سمته، وجمال تعامله، وجودة إدارته، ودقة تصريفه ومعالجته للأمور، إلى غير ذلك من أنواع التعليم.. وقد جاء في الحديث العظيم المبنى والمعنى: “كلكم راع ومسئول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” [صحيح البخاري (الفتح) 5/11 كتاب العتق ح:2554، وصحيح مسلم 3/1459 كتاب الإمارة ح:1829].

لكن مهمة المعلم المدرسي تتعاظم لأنه الشخص المختار لعملية التعليم المنهجية، والتي يمر بها معظم الناس، إن لم نقل كلهم، فأي فرد من أفراد المجتمع لا بد أنه تلقى نوعاً من التعليم، ومرَّ بمرحلة من مراحله، فالمُعَلِّم تتخرج من خلاله قطاعات المجتمع كل في تخصصه وفنه الذي اختاره أو اختير له.

وغالباً ما تكون عملية التعليم توارثاً بين المُعَلِّم والمتعلم، فمتعلم اليوم سيكون مُعَلِّم الغد، كما أن مُعَلِّم اليوم كان مُتعلما بالأمس، وهكذا فهي عملية مُتوارثة، يتعاقب عليها كثير من الناس.

والمعلم ـ أيضاً ـ هو معلم مِن وجه ومتعلم مِن وجه آخر، حيث يقوم بتزكية نفسه وعلمه ومهاراته بجهده الذاتي، إضافة إلى وجود مَن يشرف عليه ويتابعه وينمي قدراته ومهاراته، ويسدد خُطاه نحو الطرق التعليمية الصحيحة على ما هو معروف في الأطر الإدارية في وزارات التعليم والتعليم العالي في بلدان العالم.

نماذج سلبية لبعض المعلمين: [قد استفدت أكثر هذه النماذج من رسالة: المدرس ومهارات التوجيه لمحمد بن عبد الله الدويش ص:13-16]

والآن أدلف إلى عرض بعض الصور السلبية لبعض المعلمين والتي ازدحمت بها مؤسسات التعليم على مختلف مراحله والتي كانت وراء تلك الصور الشائهة في مجتمعاتنا. 

فهذا معلم لجأ إلى وظيفة التعليم بغية الامتهان؛ ينظر إليها على أنها مجرد سبب للتكسب والارتزاق، ولو كان يقدر على امتهان وظيفة أخرى غيرها تُحقق له مكاسب أكبر أو مثلها دون تحمل مشاق التعليم لقصدها، فهو صريع لميزان الربح والخسارة المادية، والحوافز والعوائق، يقابل بينها، دون نظر إلى رسالة التعليم وأهدافها السامية، فهو لا يحفل بها ولا تقع في دائرة همومه، فماذا يُنتظر من معلم الأجيال وهذه النظرة مسيطرة عليه، تملأ عليه مدراكه وهمومه؟!

ومعلم ثان يشكو دهره ويندب حظه، وهو منغمس في أعباء التدريس التي لا تكاد توفر له راحةً ولا تدرّ عليه مالاً يكافئ جهده، فما يبذله أكثر مما يحصل عليه، فتراه يتطلع إلى أقرانه الذين اختاروا أعمالاً أخرى غير التعليم؛ يتعاملون مع أوراق صماء، ويواجهون جمهوراً من الناس أرقى عقولاً وأسهل تعاملاً من أطفال المدراس، والأهم من ذلك أن تنتهي أعمالهم وعلاقتهم بدائرة العمل بانتهاء الدوام الرسمي، أما صاحبنا فأعباء المهنة تلاحقه حتى في أوقات راحته وأعياده وعطلاته الرسمية، وأقل ذلك همومهاً، فهو ينظر إلى نفسه أنه أخسر الناس صفقة، فأية فائدة تربوية ترجى ممن كان في هذه الحالة؟!

وثالث لا يهتم بما يدور خارج قاعة الدرس، فجل همّه إكمال المقررات والفراغ من تدريسها، والإتيان على عناصرها ومفرداتها لا يترك منها شيئا، هذا ما يشغله، وهو ما يوظف نفسه لتحقيقه، غير ملتفتٍ لغيره، وهذا منه حسن، لكنه فاقد الإحساس أو فاقد الغيرة على أحوال أُمته وأحوال أبناء المسلمين الذين يتهافتون على الفساد أمام ناظريه، دون أن يحرك ذلك فيه ساكناً، أو يثير فيه حميّة، كأن الأمر لا يعنيه في شيء؛ وإنما الذي يعنيه تدريس الفاعل والمفعول، أو توضيح المركبات وقوانينها وخصائصها. بل الأعجب أن يكون صاحبنا معلماً لمواد العلوم الشرعية، وهو مع ذلك منفصل تماماً عن واقع طلابه ومجتمعه.

ورابع لا يبارح تخصصه العلمي أو الأدبي البحت، بل هو يراوح بين نواحي المقرر والتخصص، لا يربطه بالقضية الكبرى، قضية الإيمان والأخلاق وتعميقها في نفوس طلابه من خلال تخصصه، ومراعاة ذلك في سلوكهم وفهمهم واستيعابهم، ظاناً أن هذا ليس من شأنه، ولا من مهامه، بل له أستاذ آخر ومقرر آخر، أما هو فليوفر جهده ووقته لما هو بصدده من قضايا التخصص.

وخامس؛ معلم لجأ إلى التعليم باعتباره الوظيفة الوحيدة المتاحة أمامه، لم يقصدها رغبةً ولا حرصاً، بل مُكره أخاك لا بطل، فهي الوحيدة التي تتناسب وقدراته ومؤهلاته، دون رغباته وتطلعاته، وحاله يحكي حال الآلاف من طلبة كليات الشريعة والعلوم الإنسانية والأدبية، الذين لجأوا إليها مكرهين مدفوعين بالأبواب، حيث حبسهم ضعف المعدل الأكاديمي عند هذه الحدود، ولم يمكِّنهم من تجاوزها إلى كليات أخرى كانت محط آمالهم، ومنتهى تطلعاتهم. فأي تفوّق وإبداع وأي إخلاص يرجى ممن هذا حاله سواء في الطلب، أو في العطاء.

وسادس.. وسابع …

فهذه وغيرها صور سالبة متعددة تزدحم بها حياتنا التعليمية كان لها الأثر السيء والعميق في مؤسسات المجتمع المتنوعة على ما حكيناه سابقا.

ومع ذلك فإن العدل يقتضي أن نعترف ـ مقارنةً بالماضي عشيّة خروج المحتل ـ أن نسبة المتعلمين إلى مجموع السكان قد ارتفعت ارتفاعاً مطرداً ولا تزال في ازدياد، المعلم والمتعلم والمدارس والوسائل التعليمية ومن أهمها الكتاب، وصار التعليم إلزامياً في كثير من البلاد، لا سيما التعليم الابتدائي، وانفتح التعليم الجامعي أمام معظم فئات المجتمع بعد أن كان حِكراً على فِئات مُعينة؛ إما بسبب الانتقائية، وإما بسبب الضعف المادي لدى قطاعات كبيرة مِن المجتمع، وإما لأنه كان يعد ترفاً اجتماعياً في بعض الأوساط وفي أوقات مضت.

المهم أن التعليم الآن أصبح حاجةً اجتماعية، الحرص عليه لا يقل عن الحرص على بقية الحاجيات.

لكن كل ذلك لم يمنع مِن ظهور تلك الصور السلبية للمُعَلِّم، ويقابلها صور سالبة للمتعلم مِن الضعف العلمي والتربوي، مع ضعف الهمّة والطُمُوح، إضافة إلى أنّ المؤسسة التعليمية تعاني من إخفاقات كثيرة من أهمها: [انظر: مجلة البيان ـ الافتتاحية ـ العدد 16]

1- تغليب المستوي الكمي على المستوى الكيفي للمعلم والمتعلم.

2- النظرة الخاطئة نحو التعليم واعتباره وسيلة ارتزاق وليس غاية قائمة بنفسها، ومن ثم ربط بين التعليم وبين ما يسمى بحاجة سوق العمل.

3- اهتزاز قيمة المعلم الاجتماعية، وتقويمه تقويماً مادياً صرفاً، حتى صار المعلم أقل حظاً من ذوي المهن والحرف اليدوية التي لا تتطلب إعداداً علمياً أو تثقيفياً مثلما يحتاجه المعلم.

4- أصبحت مهنة التعليم من المهن المحتقرة في المجتمع، لا سيما في مجال التعليم العام، على الرغم من ما يقال من كلام إنشائي وخطابي في مناسبات تكريم المعلم.

فهل يُلام المعلم على قِلّة إخلاصه وموت طموحه نحو تقديم الأفضل؟!

فلنسأل كل إنسان هذا السؤال بمن فيهم المعلم نفسه: أتحب أن يكون ولدك معلماً ؟ 

قليل مَن يورِّث ولده مهنة التعليم ومحبّة هذه المهنة، وتبعاتها من مكتبةٍ ونحوها، حتى علماء الشرع واللسانيات يوجهون أبناءهم توجيهات بعيدة عن مهنة التعليم؛ وذلك لأن إيقاع الحياة يسير في نواح أخرى، ويتطلب مهارات أخرى، وهو ما يسمى بسوق العمل الذي يفرض نفسه على توجه الأفراد، وكثيرا ما يكون هذا السوق أوهاماً من صنع الخيال، أو أنه نتيجة ولادة غير طبيعية تفرض وجودها مؤقتاً ثم تدور الحياة في اتجاهات أخرى جديدة، ومن الآباء المعلمين من يقول: يكفي أنا أكون الضحية في مجال التعليم، ولا يرضى لولده وفلذةَ كبده أن يشاركه هذه التضحية، ويخوض غمار هذه التجربة المريرة على حد زعمه..

المُعَلِّم الرسالي المنشود 

أضع بين يديك ما قدرت على جمعه مما أراه لائقاً بالمعلم الرسالي أن يتصف به من الصِّفات، حتى يكون عنصراً فاعلاً في عملية التغيير الاجتماعي الكبرى المنشودة في الأمة، آملاً أن تجد مَن يؤمِّن عليها، ويضيف إليها، ومن يترجمها إلى واقع حي، وسلوك متميز.

الصفة الأولى: نيةٌ خالصةٌ وقصدٌ صادق 
النية الصحيحة مطلوبةٌ في كل قربة يُرجى ثوابها عند الله، ومن ذلك التعلُّم والتعليم، ويتأكد ذلك في علوم الشرع، والنية تحتاج إلى مجاهدة في تحصيلها واستصحابها، وإلى مدافعة أضدادها ومفسداتها، والنية هي سبب قبولٍ وتوفيق، وحصول بركةٍ وتسديد، وقد افتتح الإمام البخاري وبعض الأئمة مؤلفاتهم بحديث إنما الأعمال بالنيات، وهي تدخل كما قال الإمام الشافعي في سبعين باباً من أبواب الفقه [جامع العلوم والحكم ـ ابن رجب الحنبلي ص:5] ، والعدد للتكثير لا للتحديد والاستقصاء.

فعلى المُعَلِّم أن يتحرى بعلمه وتعليمه وجه الله تعالى والدار الآخرة، لا مباهاة العلماء، أو مماراة السفهاء، أو مجاراة الأغنياء، أو مداهنة الأمراء، وفي الحديث: أول مَن تُسَعّر بهم النار ثلاثة نفر؛ باذلٌ للمال، وطالب للعلم، وخارج للقتال، لكنهم لم يقصدوا بأعمالهم إلا وجوه الناس وثنائهم، وقد وجدوا ما قصدوا إليه، فحرمهم القبول والثواب [انظر: صحيح مسلم3/1513 كتاب الإمارة ح: 1905.] وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيَّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار” [سنن ابن ماجه 1/93 المقدمة ح:254 قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. وانظر: مستدرك الحاكم 1/86 كتاب العلم].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: “من تعلَّم علما مما يُبتغى به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرْف الجنة يوم القيامة” [رواه الحاكم في مستدركه 1/85 كتاب العلم وصححه، وأبوداود في سننه 4/71 كتاب العلم ح:3664، وابن ماجه في سننه 1/93 المقدمة ح:252] وعرف الجنة: ريحها.

مع ملاحظة أن الوعيد يلحق ـ كما أفهم الحديث ـ مَن قصد بعلمه الدنيا ومحَّض لذلك نيّته من غير التفاتٍ للآخرة، أما من أراد بعلمه الآخرة وأصاب مع ذلك شيئاً من الدنيا فلا يلحقه الوعيد، وقد تحدث الفقهاء عن جواز التشريك في النية كما في الحج: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) [سورة البقرة: 198] (ليشهدوا منافع لهم) [سورة الحج: 28]. ففرقٌ بين مَن يأخذ الدنيا ليتفرغ لعمل الآخرة، وبين من يعمل عمل الآخرة ليأخذ الدنيا، فتأمل؛ فإنه موضع الزلل [انظر: المرقاة شرح المشكاة ـ الملا علي القاري 1/287]. فالحديث إنما يَذُمّ مَن قصد الدنيا، لا من جاءته الدنيا بغير هذا القصد. والقرآن ذم من (طغى وآثر الحياة الدنيا) [سورة النازعات: 37] و(من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا) [سورة النجم: 29] و(من كان يريد العاجلة) [سورة الإسراء: 18] في مقابل (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن)[سورة الإسراء: 19]. والدنيا لا تُذَمّ إلا إذا قُصدت بعمل وعلم الآخرة، وكيف تُذَمّ الدنيا لذاتها وهي مزرعة الآخرة؟ ولهذا قال العلامة القاري في المرقاة: “أفهم الحديث أن من أخلص قصده فتعلم لله، لا يضره حصول الدنيا له من غير قصدها بتعلمه، بل مِن شأن الإخلاص بالعلم أن تأتي الدنيا لصاحبه راغمة..” [مرجع سابق 1/288].

وللعلامة الدكتور يوسف القرضاوي إشارة نفيسة [انظر: كتابه: الرسول والعلم ص: 97-98. وقد أفدت من الكتاب في مواضع غير هذا]: وهي أن كثيراً من طلاب العلم في عصرنا لا يتجهون إلى العلم بنيّة مبيتة، بل يوجههم إليه ـ في صغرهم ـ آباؤهم، أو مجموع درجاتهم، أو ظروفٌ خاصة بهم مثل ألا يكون في البلد إلا لونٌ معين مِن الدراسة يُفرض عليهم، ثم لا يلبثون إذا أدركوا أن يجدوا أنفسهم في معهدٍ ديني، أو كليةٍ شرعية، ولو خُير اليوم ما اختار هذا الطريق فهذه دراسة بلا نية، لأن النِيّة مع الاختيار، ولهذا ينبغي لمن وضعته الأقدار في هذا الموضع أن يجدد نية صالحة ورغبةً صادقةً، وسيجد مِن العلم الذي يعيش في ظلاله، وصحبة أهل الخير في سيره، ما يُعينه على تصحيح النيّة. وقد رووا عن مجاهد قال: “طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله بعدُ فيه نيةً” [سنن الدارمي 1/101] وعن الحسن والثوري قالا: “كنا نطلب العلم للدنيا فجرَّنا إلى الآخرة” [جامع بيان العلم ـ ابن عبد البر ص: 309،308].

ومثله يقال فيمن اتجه إلى مهنة التعليم مِن غير رغبة، بل لواحد من الأسباب التي أشار إليها الدكتور القرضاوي، خاصّة ضعف المعدل، حيث يتجه إلى تخصصات دون طموحه وآماله، فمثل هذا يحتاج إلى تجديد النية حتى يُقْبَل عمله، ويُبَارَك له فيه، ويكون أقدر على العطاء والنماء والتجويد والإبداع والابتكار، فالرغبة عاملٌ مهم في ذلك كله.

الصفة الثانية: التعليم رسالة لا مجرد وظيفة المعلم الرسالي يعي دوره تماماً، ويتحرك بدافع ذاتي داخلي معتبراً مهمته عبادة يؤديها، ورسالة يسعى لتحقيقها، وهو حريص على ذلك سواء في هذا المجال الرسمي أو في مجالات أخرى، فما المدرسة أو الجامعة إلا وعاء يسره الله تعالى له ليؤدي هذا الواجب من خلاله، وبالتالي فهو لا ينقطع عن هذه المهمة مهما تغيرت الأوعية، واختلفت التخصصات، فيوسف عليه السلام كان داعياً إلى الله تعالى وهو في بيت العزيز عسيفاً، وفي الحبس سجيناً، وفي المُلك وزيراً، تغيرت أوضاعه وأحواله ولم يثنه ذلك عن أداء واجبه الرسالي.

إن مهمة المُعَلِّم الرسالي لا تنتهي ولا تتوقف أبداً؛ لا بإحالته إلى التقاعد ولا بنقله إلى مكان آخر، أو تغريبه بعيداً عن أهله أو وطنه، بل ولا بفصله عن وظيفته، فهو كالغيث أينما وقع نفع، ومن ثمرات هذا الخُلُق؛ أنه لا يعذر نفسه وإن كان معذوراً، فلا يهرب من مهمته مستغلاً الأعذار وإن كانت معتبرة، أو مستفيداً من القصور الذي قد يعتري بعض الأنظمة واللوائح. بل لو كانت هناك فجوات في الأنظمة فهو يستغلها لصالح مهمته، وتحقيق رسالته، فهو يشعر أنه على ثغرة مهمة وخطيرة يخشى أن تغرق السفينة مِن خلالها، فيرى مِن نفسه أنه في مقام المسئول وإن كان غير ملوم لو نأى بنفسه عن هذا كله، لكن شخصيته الرسالية وهمته العالية تأبى عليه ذلك، فالسفينة سفينته، وينبغي أن يعمل على استنقاذها والنجاة بها، ومن ثمراته ـ أي هذا الخلق ـ أنه إذا أصاب المؤسسة التي يعمل فيها فشل أو قصور ـ وإن لم يكن متسببا فيه ـ تجده يهتم لذلك ويغتم، ويشعر أن المصاب يشمله أيضا، كما أنه يفرح ويسر إن نالها نجاح وتفوق وإن كان من غير جهته، وبذا يكون قد خلَّص قلبه من دائين خطيرين هما؛ الحسد والشماتة، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر عن نفسه خصالاً منها؛ أنه يفرح بالغيث يصيب داراً للمسلمين وربما ليس له فيها سائمة، وبالحاكم العادل وربما ليس له به حاجة.

أما المُعَلِّم غير الرسالي فملتزم بالعقد الذي بينه وبين مستخدميه، لا يُقيل ولا يستقيل، مستفيداً من كل ثغرة، مستغلاً لكل غفلة، لا يهمه ولا يشغله ما يحصل لمؤسسته ما دام بعيداً عن المحاسبة والمؤاخذة الإدارية.

الصفة الثالثة: يحمل همَّ أُمّة المعلم الرسالي يتفاعل مع قضايا أمته الآنية والملحة، وما أكثرها، وهو أيضا يتفاعل مع قضايا مجتمعه الصغير والكبير خارج أسوار المؤسسة التعليمية، غير منقطع عنها، بل هي حاضرة في ذهنه، تتقدم اهتماماته، لا يكاد يغفل عنها وهو يؤدي واجبه الوظيفي تجاه طُلابه في أي فرع من فروع المعرفة، وعند لقائهم خارج قاعة الدرس، يخلط فنه ودرسه بهذه الهموم ويوجههم إلى الاهتمام بها، والتفاعل معها، وتلمّس أفضل الحلول لها، وهذا ديدنه أيضا عند لقائه زملاءه ومسئوليه.

أما المُعَلِّم غير الرسالي فينتهي واجبه في حدود إلقائه الدرس على النحو الذي يحقق الفائدة العلمية المرجوة منه وكفى، فهو ملتزم بقاعة الدرس مكاناً وزماناً وهموماً.

الصفة الرابعة: عطاء لا ينتظر الثناء المعلم الرسالي لا يربط بين جهده وعطائه وبين ما يحصل عليه من مردود مادي أو معنوي، مثل الراتب والحوافز المعنوية، فلا علاقة بين الأمرين في سيره نحو تحقيق هدفه الرسالي، لا يؤثر ما يتعاطاه على ما يبذله نحو طلابه، لأن هذه مهمته الأساس؛ تعليم الناس الخير، وطَّن نفسه عليها، وسخَّر طاقاته وإمكاناته لها، غير ملتفت لتثبيط مثبِّط ولا تشجيع مشجِّع، بل لا يؤثر ما قد يحدث بين المعلم وإدارته مِن مشكلات على علاقته بطلابه، وجهده معهم، إذ لا صلة لهم بما قد حدث.

ومن ذلك أنه لا يحرص على المناصب الإدارية ولا الألقاب العلمية لأنها قد تكون غلاً يعوقه عن السير، إلا إذا كان في ذلك عوناً له على أداء مهمته، والتمكين لرسالته، (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) [سورة يوسف: 55] فوجوده في المناصب العليا لا يعني إلا مزيداً من التكليف والعبء، كما أن وجوده في المناصب الدنيا لا يعفيه عن الشعور بالمسئولية، فالمناصب والألقاب عنده سواء، فلا خير فيها إن هي حجبته عن أداء مهمته، وشغلته عن تحقيق رسالته، فلا يغريه العطاء، ولا يوقفه الجفاء، بل هو كما جاء في الحديث: “طوبي لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله أشعثَ رأسه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفَّع” [من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري6/95-96(الفتح) كتاب الجهاد ح:2887] ومن علامات صدقه وصحة عزمه أنه مواصل لسيرته العملية وإنتاجه العلمي مهما نال من ألقاب، وتبوأ من مواقع.

أما المعلم غير الرسالي فقد جعل غايته مِن المهنة المردود المادي والمعنوي فحسب، ولو حرص على أداء المهنة على الوجه المطلوب وظيفياً فلأجل ما يتعاطاه ليس وراء ذلك شيء، إن زادوا اجتهد وبذل، وإن أمسكوا قصّر وأهمل.

الصفة الخامسة: المعلم القدوة المعلم الرسالي عاملٌ بما يعلم ويُعلِّم، فهو صورة ينعكس فيها ما قد علّمه لطلابه، يقرأون فيها أقواله وتوجيهاته وإشاراته، فالعلم عنده للعمل لا للترف الذهني، أو الترويض العقلي، أوالتذوق البياني والخطابي، وهو يشعر بمسئوليته نحو هذا العلم تتعلق بشخصه وبمن جعلهم الله تحت ولايته كأولاده ومن في حكمهم مثل هؤلاء الطلاب، وقد كان السلف يدققون في اختيار العلماء والمؤدبين لأبنائهم؛ قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “كانت أمي تُعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه” [ترتيب المدارك ـ عياض 1/130].

وكلما اتسعت دائرة علمه كلما عظمت درجة المسئولية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه” [رواه الترمذي في سننه 4/35 أبواب صفة القيامة ح:2531 وقال هذا حديث حسن صحيح، وذكر رواية له أخرى برقم:2532 وصححهما الألباني انظر: صحيح الترمذي له 2/289ح:1969_1970] فمقام المعلم جد خطير إذ أن أعين المتعلمين معقودة به يتخذونه مثالاً يُقتدى ونموذجاً يحتذى، ويرون كل قولٍ يخرج منه صواباً، وكل فعل يصدر عنه صحيحاً، فلينظر كل معلم؛ كم يُصلِح من الناس وكم يُفسِد! فالتعليم بالقدوة أعظم تأثيراً وأقوى حجةً منه بمجرد الكلام والبيان، فكيف إذا كان الفعل يخالف القول، والسلوك يصادم التوجيه، وقد نعى القرآن الكريم على بني إسرائيل كما في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [سورة البقرة: 44] وقوله: (مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم…) [سورة الجمعة: 5] وأنكر على المؤمنين أن يسلكوا هذا السبيل فقال: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [سورة الصف: 2،3] وعن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه” [صحيح البخاري 6/381 كتاب بدء الخلق ح:3267، وصحيح مسلم 4/2290-2291 كتاب الزهد ح:2989] وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان” [قال في الترغيب: رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورواته محتج بهم في الصحيح. 1/105 ح:224].

أما المُعَلِّم غير الرسالي فلا يوجد عنده تلازم بين الأمرين، بين ما يَعْلَمُه ويُعلِّمه وبين ما يلتزم به، فالالتزام بالنسبة له أمر اختياري طوعي، ولا يشعر بأي قصور في أداء واجبه الوظيفي إن هو لم يلتزم بما عَلِم وعلَّم، وكم يكون لهذا الفهم والسلوك المبني عليه من أثر سيئ وسلبي على طلابه في تشكيل قناعاتهم، وفي تجاوبهم مع ما يسمعون، وأشد منه ما يُحدثه في نفوسهم من نزاعٍ شرس وفصامٍ نَكِد بين ما يسمعون وبين ما يشاهدون، ومهما بالغنا في إقناع الناس بوجوب التفريق بين ما يقوله العالم وبين ما يمارسه، فلن يجدي ذلك نفعاً، فصورة الفعل تعلق بالنفوس والعقول أكثر من رنين القول، أرأيتم كم يكون أثر الطبيب المُدخن أو المخمور سيئاً على الناس، فكذلك ـ بل أشد ـ أثر العالم أو المعلِّم المتساهل، فذاك معالج الأبدان وهذا معالج القلوب والنفوس، وقد رُوي عن علي رضي الله عنه قوله: قصم ظهري رجلان؛ جاهل متنسك، وعالم متهتك، ذاك يغرُّهم بتنسكه، وهذا يُضلُّهم بتهتّكه [انظر: الرسول والعلم ـ القرضاوي ص:75].

الصفة السادسة: العناية بالمظهر فمما ينبغي العناية به الحالة التي يظهر عليها المعلم أمام طلابه، فالمعلم الرسالي يهتم بحسن سمته، وجمال مظهره، من نظافةٍ وتأنقٍ وتناسقٍ وطيب رائحة، بعيداً عن الإسراف وملتزماً حد الاعتدال، فذلك أدعى للقبول والتقدير له، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً هل ذلك من الكبر؟ فقال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس [رواه مسلم في صحيحه 1/93 كتاب الإيمان ح: 91] وفي فهرس الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي [1/372 وما بعدها]: باب في إصلاح المحدث هيئته وأخذه لرواية الحديث زينته، جاء تحته المباحث التالية:

البدأُ بالسواك، وقص الأظافر إذا طالت، والأخذ من الشارب، وتسريحه لحيته، ويسكِّن شعث رأسه، ويتجنب ما كُرِه ريحه، وغسل الثوب إذا اتسخ، وكراهة لبس الثوب الخَلِق وهو يقدر على الجديد، وبخوره ومسّه من الطيب، ونظره في المرآة… ا.هـ

وليكن ذلك سمته دائماً، لا قصراً على وقت الدرس ومكانه، لأن طلابه ربما يلتقونه خارج قاعة الدرس؛ في سوق أو حفل أو غيره.

وأرى أيضا من تمام الاهتمام بحسن المظهر: المسكن الذي يسكنه، فلا يسكن إلا في مكان لائق ما دام قادراً على ذلك، فإن طلابه وزملاءه ربما يزورونه فيه، فليختر لنفسه ما يرفع قدره في نفوسهم، ومثله يقال في الأدوات التي يستخدمها أن يهتم بنوعيتها ونظافتها دون تكلف ولا مباهاة.

الصفة السابعة: العناية بالتخصص الاهتمام بالتخصص والعناية به والسعي لبلوغ الذروة فيه ينبغي أن يكون من شأن المعلم الرسالي، لأنه سيكون مرجعاً لطلابه يسألونه ويستفتونه به، ويلتزمون بما يمليه عليهم ويوجههم إليه، وينقلون هذا عنه إلى غيرهم مِن زملائهم أو طلابهم حينما يتصدون للتعليم فيما بعد، فلا بد من العناية بهذا الأمر عنايةً فائقةً والتأكد من صحة المعلومات وصحة العلاقة بينها وبين النتائج المستنبطة منها، وقد سُئل سفيان بن عيينه: من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم؛ لأن الخطأ منه أقبح [جامع بيان العلم ص: 156].

ونحن نعيش في عصر تميز بمراعاة التخصص الدقيق، وشرعنا أيضا يهتم بالتخصص ويوليه عناية فائقة، فمن ذا الذي يحيط بأنواع العلوم كلها؟! قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [سورة النحل: 43] وقال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [سورة النساء: 83] وقال صلى الله عليه وسلم: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” [رواه الترمذي في سننه 5/330 أبواب المناقب ح:3879 وقال غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه، وهو في مسند الإمام أحمد 20/252 ح:12904 قال محققه: إسناده صحيح، وانظر: 21/406 من المسند ح:13990، وسنن ابن ماجه 1/55 المقدمة ح: 154].

والعناية بالتخصص لا يعني إهمال التخصصات الأخرى لا سيما ذوات العلاقة، بل لا بُدّ مِن الحصول على قدر ما يخدم التخصص حيث يُقدم لطلابه نسيجاً متناسقاً يشد بعضه بعضاً، بعيداً عن التنافر والتناقض.

الصفة الثامنة: عدل وإنصاف المعلم الرسالي يحترم آداب المهنة وأخلاقياتها، ويقوم بالعدل والقسط، لا يرده عن ذلك عداوة ولا صداقة: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة: 8]. فلو أراد أن يعاقب الطالب على تقصير وقع فيه فعلى قدر التقصير لا يتجاوزه إلى التشفي والانتقام، وللأسف الشديد يذهب أحياناً بعض الطلبة خاصةً في مرحلة الدراسات العليا ضحية التهارش والتنافس غير الكريم بين بعض الأساتذة في المناقشات العلمية في أمور لا ناقة للطالب فيها ولا جمل، بل هو مجرد صراع شخصي أو مدرسي أو مذهبي.

وحينما نصف المعلم الرسالي بالأوصاف العليا والسمات النبيلة ونطالبه أن يكون مثلاً يحتذى وقدوة صالحة لطلابه؛ فهذا لا يعني أن يكون ذلك على حساب المهنة بحيث يعطيهم من التقييم فوق ما يستحقون، ويدفعهم إلى مواقع لا تؤهلهم قدراتهم العلمية لها، فهنا لا محاباة ولا مداراة بل القسط القسط، كما أنه لا ظلم ولا غمط لحقوقهم، فالعدل قامت عليه السموات والأرض، ويصلح عليه أمر الكون وأمر الناس، وقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة أي عن وقتها، فقال: “فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال السائل: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة” [صحيح البخاري 1/171 كتاب العلم ح: 59].

الصفة التاسعة: التعليم مشاركة إن العملية التعليمية جهد مشترك يشترك فيه المعلِّم والمتعلم والكتاب والمنهج الذي يصل بين هذه العناصر، ولكلٍ دوره الذي لا يخفى، فلا ينبغي أن يطغى دور على حساب دور، ونركز هنا على الاهتمام بدور المتعلم في هذه العملية، وهو الذي ينبغي أن لا يغفل بل يُراعى ويُنمى، وفي ذلك يراعى سن المتعلم ووضعه النفسي والعقلي، وذلك عبر مراحل التعليم كلها، لا بد من زرع الثقة في نفسه، ويعطى نوع مشاركة في التعليم والتقويم تأخذ هذه المشاركة في الاتساع والتعمُّق كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى بعدها، وفي هذا فائدة عظيمة تجعل المتعلم تتولد لديه قناعات في نفسه، يكون هو مشاركاً في تأسيسها وتعميقها، وبالتالي تؤثر هذه القناعات في سلوكه وحياته، لإحساسه أنه اشترك في صُنعها، فتجده أشد الناس التزاماً بها، وإذاعةً لها، وذوداً عنها، فيتحول المتعلم إلى عنصر دعوة وإرشاد وإصلاح بين أهله ومعارفه.

وهذا كله يحتاج إلى معلِّم فَطِنٍ حَذِق يفهم ويعي دوره في القضية.

الصفة العاشرة: معلم ومتعلم في الوقت نفسه المعلم الرسالي لا ينقطع عن طلب العلم والسؤال عنه مهما بلغ الغاية فيه؛ إذ لا غاية في العلم، ولا شبع منه: (وقل رب زدني علماً) [سورة طه: 114]، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[سورة الإسراء: 85]، وقيل لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخرى مثل ذلك، فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد، وسئل أبو عمرو بن العلاء: متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة [جامع بيان العلم ص: 156]. فالعلم يتطور ويتقدم فيحتاج إلى الرصد والمتابعة، فالعلم بالتعلم، (وفوق كل ذي علم عليم) [سورة يوسف: 76]، ولا حياء في طلب العلم، كيف وقد ضرب لنا أحد أولي العزم من الرسل، كليم الله موسى، المثل الأعلى في ذلك وهو يطلب علم الخضر ويصحبه فيه وهو الأعلى منه في المنزلة ولا ريب، وقد قال قتادة: لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى عليه السلام، ولكنه قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) [سورة الكهف: 66] [جامع بيان العلم ص: 162].

فالمعلم الرسالي لا يستكبر ولا يستنكف، أي لا يمنعه من الاستزادة في العلم كِبْر ولا كِبَر، ولا حياء ولا صغر، فمن قال: علمتُ فقد جهل، ومن صدّه الحياء عن العلم فقد حَرَم نفسه، وقد قال مجاهد : لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر [رواه البخاري معلقا في كتاب العلم 1/276، وذكر الحافظ أن أبا نعيم وصله في الحلية]. وقالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين [المرجع السابق، ووصله مسلم في صحيحه]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائلٌ فأتوسد ردائي على بابه فتُسفي الريح علَيَّ التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عمّ رسول الله! ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول أنا أحق أن آتيك فأسألك [سير أعلام النبلاء 3/343].

وكان الإمام الشافعي يطلب من تلميذه أحمد بن حنبل أن يوقفه على صحة الأحاديث لما رأى من اهتمامه بها ونبوغه فيها [انظر: طبقات الحنابلة ـ القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى 1/6]. فلا عجب ولا غرابة أن يستفيد المعلم مِن طلابه في بعض مسائل العلم، بل أن يتراجع عن خطأ له وقع فيه، ويتحلى أمامهم بقوله: لا أدري، والله أعلم، فيما خفي عليه، وندَّ عنه، ولم يحط به علماً، فهذا يجعله كبيراً في نفوسهم، ويتعلمون منه التواضع، وترك التعالم، وعدم الجرأة على الفتيا، وتقحّم ما لا يحسن. يقول الإمام النووي رحمه الله في صفات العالم: أن “لا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو شهرة أو دين أو في علم آخر، بل يحرص على الفائدة ممن كانت عنده، وإن كان دونه في جميع هذا، ولا يستحي من السؤال عما لم يعلم” [المجموع شرح المهذب 1/29].

ويقول ابن جماعة: “واعلم أن قول المسئول: (لا أدري) لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته وحسن تثبته، وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فرّ منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك” [تذكرة السامع والمتكلم ـ ابن جماعة ص:42-43].

الصفة الحادية عشرة: استكشاف المواهب ورعايتها لا شك أن هناك فروقاً فردية بين الطلاب الجالسين في مقاعد الدراسة، قد تضيق وقد تتسع، والمعلم النابه من يلحظ هذه الفروق، فيعطي كلاً حسب حاجته وقدراته وميوله، مع رعاية العدل والإنصاف، وتجنب الجور والإجحاف، ومع ذلك لا بد من تلمّس معالم النبوغ في الطلاب ليوفر لهم مزيداً من العناية والرعاية، وذلك بإعطائهم جرعات خاصة من العلوم، وتوجيههم بما يصقل مواهبهم، وينمي قدراتهم، ويزكي ميولهم، خدمةً لهم ولأمتهم من ورائهم.

والنبوغ ليس قصراً على التفوق في استظهار الدروس، وحل المسائل العلمية، بل النبوغ في جوانب شتى ومتنوعة؛ من شِعر وفصاحة وخطابة أو قدرات علمية وإبداعية أو إمكانات قيادية إلى غير ذلك من أنواع النبوغ، وكلها تحتاج إلى معلم فطن، وإن كان لا يستطيع متابعة بعض هذا الجوانب وقد أمكنه اكتشافها وتلمسها، فلا عليه أن يسندها إلى أهل الخبرة والاختصاص من زملاء المهنة.

جاء في كتاب أدب الدنيا والدين: “ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه، أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم، وأنجح للمتعلم، وقد روى ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم… وإذا كان العالم في توسم المتعلمين بهذه الصفة، وكان بقدر استحقاقهم خبيراً لم يضِع له عناء، ولم يخب على يديه صاحب، وإن لم يتوسمهم، وخفيت عليه أحوالهم، ومبلغ استحقاقهم كانوا وإياه في عناء مُكْدٍ، وتعب غير مُجْدٍ؛ لأنه لا يُعدم أن يكون فيهم ذكي محتاجٌ إلى الزيادة، وبليدٌ يكتفي بالقليل، فيضجر الذكي منه، ويعجز البليد عنه، ومن يردد أصحابه بين عجز وضجر ملوه وملهم” [أدب الدنيا والدين ـ الماوردي ص:90].

وقد قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: “من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال له: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوَّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث” [صحيح البخاري 11/418 كتاب الرقاق ح: 6570].

وأنت تأسف أشد الأسف حين ترى الغرب يهتم بالنابغين والنابهين، بل بالمعوقين والعاجزين من الناشئين والشباب، في مقابل الإهمال الذريع في عالمنا الإسلامي لأمثال هؤلاء، بل قد تجد الإحباط والتثبيط، ولو علم بهم الغرب لوجدوا منه العناية والرعاية، ثم الإفادة منهم في بناء حضارته ومدنيته. نشكو الظلام وفي يدنا المصباح، ونموت عطشا وبيننا تجري الأنهار:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما =والمـاء فوق ظهورهـا محمول

الصفة الثانية عشرة: مراعاة الفروق الفردية: 
فمما ينبغي على المعلم الاهتمام به مراعاة الفروق بين طلابه وهو يعلمهم ويربيهم ويعدهم للمستقبل، مع أن هذا الأمر قد كفلته المناهج النظامية، لكن مع ذلك تظل قضية الفروق الفردية قائمة، في القاعة الواحدة والمرحلة الواحدة، فلا بد من الانتباه لها، ومراعاتها لتحقيق أكبر مصلحة في التعليم والتوجيه والإفادة من ذلك، أما خارج الأطر النظامية فأمر مراعاة الفروق الفردية أو الجماعية آكد، كما في دروس المساجد والمحاضرات العامة والخطب والمواعظ.

فينبغي على المعلم والداعية أن يعطي الناس ما يناسب مستواياتهم، وعقولهم وإدراكهم، ويمس حاجاتهم وواقعهم، ويكون أنفع لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولهذا كان المعلم الأول صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في دعوته وتعليمه، حيث كانت تختلف وصاياه وأجوبته باختلاف أحوال السائلين والطالبين، فيوصي بعضهم بالعبادة وترك الشرك، وآخرين بالصلاة والزكاة، وآخرين بحسن الخلق، وآخرين بمجانبة الغضب، كما أنهم يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أي الأعمال أفضل؟ فيجيب بعضهم بأنه الإيمان بالله ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجيب آخرين بأنه الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وآخرين بأنه إطعام الطعام وإفشاء السلام، وهكذا، “ولا تفسير لهذا الاختلاف في الجواب مع اتحاد السؤال، إلا مراعاة أحوال السائلين، وما بينهم من فروق يجب اعتبارها”. وقد يختلف الجواب عن السؤال الواحد في القضية الواحدة في المجلس الواحد، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقَبِّل وأنا صائم؟ فقال: لا. فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: نعم. فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعضكم. إن الشيخ يملك نفسه [المسند ـ جزء 11 ح:7054 قال شاكر: إسناده صحيح، مع أن فيه ابن لهيعة. وانظر ح: 6739 وتعليق المحقق]. وتختلف مواقفه صلى الله عليه وسلم باختلاف الأشخاص الذين يتعامل معهم، فيعامل الأعراب بما لا يعامل به أصحابه الملازمين له؛ فيغتفر لأولئك ما لا يغتفر لهؤلاء، ويتألف قلوب مسلمة الفتح وزعماء القبائل بما لا يصنع مثله مع السابقين من المهاجرين والأنصار، ويغطي فخذه عند دخول عثمان ولم يفعل ذلك مع أبي بكر وعمر، وإن دخل عليه كريم قوم أكرمه، وإذا دخل عليه سفيه أو شرير داراه بطلاقة الوجه أو بكلمة طيبة ـ دون مداهنة أو مدح بالباطل ـ تألفاً له، واتقاءً لشرّه، وتختلف أوامره صلى الله عليه وسلم وتكليفاته باختلاف من يأمرهم ويكلفهم، فيكلف أبا بكر في الهجرة بما لا يكلف به عليا، ويكلف بعض أصحابه بقيادة السرايا وبعضهم بالمنافحة عنه وعن الإسلام بالشعر كما فعل مع حسان بن ثابت، ويعتذر لأبي ذر عن توليته لبعض أمور المسلمين، وقد يقبل من بعض الأفراد موقفاً أو سلوكاً لا يقبله من غيره لاختلاف الظروف، كما قَبِل من بعض  .

* أستاذ مساعد بكلية الشريعة – جامعة قطر

المصدر : شبكة المشكاة الإسلامية


شاركها.