د . يسري عبد الغني عبد الله – باحث وخبير في التراث الثقافي / جمهورية مصر العربية

اعتاد بعض المؤرخين في العصور السابقة اعتبار الأدب والشعر والفن جزءًا لا يتجزأ من المصدر التاريخي ، فمثلا نجد مدينة أثينا اليونانية التي فاقت كل بلاد اليونان في تراثها الأدبي والفني والفلسفي ، فقد كانت أغناها تاريخًا ، ولكن للفن والأدب متخصصون لهم وثائقهم التي يبحثون فيها وهي إبداعات أهل الفن والأدب ، أما المؤرخ فعليه أن يفكر مرتين قبل أن يكتب تاريخه على ضوء الأدب والفنون .

       حقيقي أن الأدب والفن هما أفضل معيارين للعصر والذي على أساسهما نقيم وندرس مدى رقي وتحضر هذا العصر ، بشرط ألا ندع الفنون وجمالها ، والشعر بخيال شعرائه الساحر ، وتأملات المفكرين تفرض نفسها على منهج المؤرخ في كتابة ودرس التاريخ ، فأحيانًا يكون المظهر الخارجي للمجتمع مخالفاً لجوهره .

       إن الأدب والفن والفكر هي الأسس التي تشكل المظهر الخارجي للمجتمع ، وأن المزاج ومعه الذوق العام في الإنتاج يعكس وضع المجتمع الظاهري ، ولكن ليس ذلك مقيدًا لحرية حركة المؤرخ ، لكنه في نفس الوقت لا يمنعه من الاستفادة من أي مصدر أدبي أو فني أو فكري .

       لقد حدث منذ القرن التاسع عشر الميلادي ثورة ضد المناهج والنظريات الضيقة لكتابة التاريخ فتحت على أثرها الأبواب أمام كل العناصر التي تساعد على تصوير المجتمع القديم من كافة جوانبه وعلى رأسها الفنون والآداب .

       نقول : يجب على المؤرخ أن يعطي اعتبارًا مناسبًا للأدب والفن إذا وجد في ذلك إفادة تاريخية ، ويجب أن يكون هذا الاعتبار محكومًا  بقدر ، بحيث لا يدع الأدب والفن مثلا يطغى على كتابته التاريخية كما يحدث في بعض حالات الذين كتبوا عن تاريخ مصر القديمة ، أو في تاريخ أثينا اليونانية .

       وفي نفس الوقت يجب ألا يهمل الباحث التاريخي الفكر والفن والأدب ويمر عليها مرور الكرام أو مرورًا عابرًا سريعًا لا يلفت النظر مما يحرم القارئ من عوامل تساعده على وضوح الرؤيا التاريخية ، لكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الشاعر أو الأديب أو الفنان ليس ملزمًا بالحقيقة التاريخية التي قد تختفي تحت وهج العاطفة والخيال والحبكة الدرامية التي يتطلبها العمل الفني من أجل عاطفة القارئ أو السامع أو المشاهد وإمتاعه .

       فمن مثلا يلوم الكاتب الإنجليزي / وليم شكسبير ، أو أمير الشعراء / أحمد شوقي عما يجيء في مسرحيتهما عن أنطونيوس وكليوباترا ؟ ، أو يلوم الكاتب / على أحمد باكثير على ما كتبه عن سيف الدين قطز أو الظاهر بيبرس في روايته الشهيرة (واه إسلاماه) من أمور تخالف التاريخ الصحيح جملة وتفصيلا.

       ولكن الأمر الغريب أو العجيب حقًا أن يعتبر الكتاب والباحثون ما كتبه باكثير أو غيره أمرًا مسلمًا به ، بل هو حقائق مقطوع بها ، وبالتالي يعتبرها أولادنا وتلاميذنا أحداثًا تاريخية حقيقية . !!

       ونحب أن نؤكد هنا على أن التاريخ لا يكتبه أديب أو سينارست أو مخرج ، لأن التاريخ علم له أصوله وقواعده ومناهجه ، وفي نفس الوقت ليس بالضرورة استطاعة المؤرخ أن يكتب أدبًا أو مسلسلا أو فلمًا سينمائيًا ، فكل مجال له أدواته ، وكل واحد فينا يسر لما خلق له ، ولم ولن يتواجد على ظهر البسيطة ذلك الإنسان الذي يعرف كل شيء ، ويكتب في كل شيء ، ويفهم في كل شيء .

       ولكن عملا مثل الإلياذة اليونانية التي كتبها هوميروس لا غنى عنها في معرفة ودراسة التاريخ الخاص ببلاد اليونان القديمة وأحوالها خلال العصر الذي عاشه هوميروس ، بالرغم من أنه خلط بين عصرين العصر الذي دارت فيه ملحمته وهي حرب طروادة الشهيرة ، وبين القرن الثامن الميلادي ، العصر الذي عاش فيه الشاعر ، ولا يستطيع أحد ملاحظة ذلك بدقة إلا إذا كان ملمًا بمعالم الحضارة الموكينية أي حضارة بلاد اليونان خلال حرب طروادة ، وكذلك بمعالم حضارة بلاد اليونان خلال عصر هوميروس مبدع الإلياذة .

        بالرغم من هذا لا يزال المؤرخون يحللون كلمات وأفكار الإلياذة لعلهم يرصدون المجتمع والتطور الذي حدث فيه ، لكن ليس كل ما جاء في هذه الملحمة حقائق تاريخية ، لا مانع من أن يستشهد المؤرخ بأبيات من الشعر وبأقوال قالها الأدباء إذا كانت متطابقة مع سائر الحقائق التاريخية ، وروعة العمل التاريخي هو أن يتطابق الدليل المادي والأثري مع التراث الأدبي والفكري .

       وأذكر هنا في مطلع الشباب أن كلفت بكتابة دراسة عن الدولة الحمدانية في شمالي حلب السورية ، وهي من الدويلات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية في عصرها الثاني ، وبدأت في الكتابة بعد جمع المراجع والمصادر ، ولكن عندما عرضت ما كتبت على أحد أساتذتي الأجلاء (رحمه الله) ، سألني : ألم تجد غير هذه المراجع ؟ ، حاول أن تجد المزيد ! ، وحاولت ولكن لم أجد الكثير عنما وجدت أولا .

 عدت مرة أخرى لأستاذي ، الذي سألني : هل قرأت أشعار أبي الطيب المتنبي المسماة (السيفيات) التي قالها في سيف الدولة الحمداني ؟ ، هل قرأت سيرة أبي الطيب في الفترة التي عاشها مع الحمدانيين ومع سيف الدولة ؟ ، هل قرأت أشعار أبي فراس الحمداني وحياته ؟ ، اذهب وأقرأ كل ذلك بتمعن شديد مع مراعاة أن هؤلاء أدباء بالدرجة الأولى ، وأنت تكتب في التاريخ ، حاول أن تكون مدققًا ممحصًا مفندًا حريصًا في كل ما تأخذه من مجال الأدب ، وبالفعل حاولت ذلك قدر الإمكان والطاقة ، وبتوفيق الله تعالى أتممت الدراسة وقدمتها للنشر ، وقد نالت استحسان أساتذتي واستحسان القراء الأعزاء .

       نقول ، إنه في بعض الأحيان يكون المؤرخ أديبًا مثل الحال عند الإغريق ، فقد كان معظم مؤرخيهم من الأدباء المشهورين المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة ، يكتبون من أجل إمتاع الناس وإفادتهم ، كما أن كتاباتهم كانت تعد قطع متفردة من روائع الأدب الإغريقي ، وهذا واضح في كتابات ثوكوريديس وغيره ، وهذا يعرفنا بأن فكرة التاريخ عند الإغريق لم تنفصل أبدًا عن غيرها من فروع الثقافة والمعرفة بما فيها من تيارات مختلفة ومتنوعة .

       إن كلمة (هيستوريا) التي منها اشتقت سائر اللغات الأوربية كلمة تاريخ من صياغة الإغريق ومعناها : الفحص والبحث في المعرفة الإنسانية التي تختص بماضي الإنسان ، وعليه فإن كتابة التاريخ يجب ألا تدرس منعزلة عن فروع المعرفة الأخرى ، بل أنه لا يمكن لأحد أن ينكر فضل المعرفة التاريخية في مد الشعراء والأدباء والفنانين بالخيال الخلاق .

       والبعض يرى أن المؤرخ الناجح هو الذي يجعل كتابته مشربة بروح الأدب حتى يقرأها الناس كما لو كانت مقطوعات أدبية راقية سامية هدفها مساعدة الناس للالتقاء بالقدماء والتعرف على أحوالهم .

       إن كثيرًا من مؤرخي الإغريق القدماء استخدموا طريقة المسرحية في مؤلفاتهم التاريخية ونسجوا الخطب الغراء ووضعوها على ألسنة السياسيين ، واستخدموا طريقة السوفسطائيين في الجدل والحوار وكل ما يساعد المؤرخ على شرح أفكاره عن التاريخ للناس .

       عندما نقرأ تاريخ ثوكوريدس نشعر بذلك كله ، فلا مانع أن يستخدم المؤرخ المؤثرات الأدبية والفنية والبلاغية في صياغة التاريخ أو كتابته ، ولا ضرر ولا ضرار في ذلك ، المهم أن يصل الفكر الجيد المفيد للناس بسهولة ويسر كي يتعلموا منه ، مما يساعدهم على التحضر والرقي الفكري .

       وقد لاحظ سير / أرنولد توينبي أن كتابة التاريخ عند الإغريق لم تكن قاصرة على فئة معينة من المتخصصين في ذلك المضمار ، بل ساهم في كتابة التاريخ الأدباء والشعراء والفلاسفة حتى الأطباء ، كما أن المؤرخين الإغريق لم يتقيدوا بالكتابة في الموضوعات والمسائل التاريخية ، بل كتبوا في موضوعات ثقافية متنوعة ، كتبوا في الرواية ، وعلم الوراثة ، وعلم الفيزياء ، وعلم الأنثروبولوجيا ، وفن الحروب ، والعلوم العسكرية .. وغيرهم..

       هناك بعض الحضارات القديمة مثل حضارة مصر الفرعونية ، وحضارة ما بين النهرين في العراق ، لا يزال التراث الفني يلعب دورًا كبيرًا في صياغة تاريخها ، لأن هذه الآثار الفنية والأدبية تقوم مقام التاريخ وتمدنا بمعلومات وفيرة عن حياة أصحاب هذه الحضارات بجوانبها الاجتماعية أو الدينية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الفنية ، فالرسومات أو النقوش التاريخية الروائية التي تروي أعمال الملوك الفراعنة على بوابات ومعابد الأقصر ، خير دليل لنا على أوجه الحياة في مصر القديمة .

       وصورة الحياة اليومية على الأواني الأفريقية الملونة مصادر مفيدة في حالة غياب الوثائق والمؤلفات التاريخية القديمة ، بل أن هذه الآثار الفنية تعد المصدر الوحيد لتاريخ الشعوب والأمم التي تواجدت قبل معرفة الكتابة،أو التي لم تحل حتى الآن رموز كتابتها ، أو التي لم تترك لنا مدونات مكتوبة .

       ويقل الاعتماد الكلي على المصادر الأدبية والفنية كلما ابتعدنا عن مجال التاريخ القديم إلى مجال التاريخ الحديث أو المعاصر ، ففي التاريخ الإسلامي مثلا نجد الاعتماد على النصوص والمخطوطات أقوى من الاعتماد على الفنون المصورة ، وتاريخ أوربا في العصر الحديث مثلا نكتبه في غياب الشعر والمسرح والفن وعمارة الكنائس لأن الوثائق موجودة وكافية .

       إن الكثير من الدارسين والباحثين في التاريخ القديم يستسهلون عملية كتابة التاريخ على ضوء الأدب والفن أو بكتابته على شكل مقالات صحفية سريعة غير موثقة ، أو بمعنى آخر ليس لها إطار مرجعي علمي سليم يجعلها تتمتع  بالمصداقية ، ولهذا اهتموا بتاريخ مصر الفرعونية على سبيل المثال وزاد عدد الكتاب في هذا المجال ، ولكن بكل أسف يمكن أن نصف معظمهم بالهواة أو المغامرين أو المدعين .

       ولكن ذلك لا يجعلنا نغض الطرف عن العلماء الأجلاء والباحثين الأكفاء الذين قدموا دراسات وأبحاث قيمة تعد خير زاد لكل من يعمل أو يقرأ في مجال البحث التاريخي ، وفي الآونة الأخيرة ضاق حقل البحث وأصبح من الصعب أن يجد الباحث موضوعًا في الحضارة المصرية القديمة لم يدرس بعد ، أو لم يكتب فيه ، ونفس الأمر بالنسبة لتاريخ مدينة أثينا اليونانية المركز الأول للتراث الأدبي والفني الإغريقي .

مصدر الصورة :

 

شاركها.