تلك المرأة .. هناك ( قصة قصيرة )

الربيع .. والمراهقة .. والأصدقاء والدروس الخصوصية بعد العصر التي تستمر إلى المغرب .. المكتبة وتصوير الورق .. الحديث عن الفتيات .. أنت عائد من درس العربي حيث أستاذ حاتم ذو مخارج الحروف السليمة .. السليمة جدًا بطريقة متخذلقة .. أحمد صديقك لا يكف عن إلقاء النكات ولا تكف أنت عن الضحك .. زملائك الباقون أيضًا غارقون في الضحك .. لا أحد منكم يبالي أنكم في وسط الشارع .. ولا حتى بالناس أحد يبالي .. يهدأ الضحك فجأة .. ويهندم كل من أصدقائك ثيابه منهم من يتصنع الوقار ومن يتصنع اللامبالة .. فعلى الرصيف المقابل ست فتيات تعرفوهم جيدًا .. ذاهبات إلى درس العربي .. مجموعة البنات التي يتمنى الجميع لو أن يحظى بحصة معهن .. لا ضحك لا كلام فقط كل واحد يحدق في فتاة أحلامه التي لم يسبق أن كلمها قط .. بعدما يذهبن تنظروا إلى بعضكم البعض ثم يعود الضحك من جديد .. أنا مبصتش .. لا والنبي ! .. والله بصيت .. لفت إنتباهك .. وانتباهك وحدك .. تلك المرأة الجالسة على الرصيف في ثيابها السوداء البالية تمد يديها تستعطف كل من يمر أمامها بكلمة .. حاجة لله ربنا يستر طريقك .. ربنا يارب ينجحك .. لا أحد من المارة يلتفت إليها .. منهم من يسرع الخطى عندما يمر بمحاذتها .. ويخفض رأسه في تواضع أو غيره .. البعض يهمهم بكلمات غير مفهومة كان يقصد بها .. الله يسهلك ..
لماذا تشعر بالشفقة عليها الأن .. هي أمامك دائمًا تراها يوميًا .. لكنك الآن تدور برأسك أفكار غريبة .. ماذا لو كنت مكانها .. أي مهانة وأي ضعف ذلك .. أي ذل تلاقيه في مد اليد تطلب الرحمة والشفقة من القلوب .. أي صبر تتحلى به تلك المرأة .. أصدقائك مازلوا في الضحك غارقون .. وحدك توقفت عن الضحك حاولت أن تبتسم علك تنساها أو تتشاغل عنها لكن المحاولة فاشلة .. الابتسامة أصبحت صعبة فجأة .. تنظر لأصدقائك القهقة على الوجوه .. والبؤس هناك متكومًا على وجهها .. حل المشكلة بسيط .. ستخرج جنيهًا من جيبك تضعه في يدها .. تتخلص به من مشاعرك تلك.. وستحظى منها بدعوة .. ربما يغمم أصدقائك ببضع كلامات .. يا حنين ..طب أنا كمان فقير هات جنية ربنا يسترك .. وربما لا يتكلمون فقط سيصمتوا لثواني احترامًا للموقف .. تلافى كل هذا وضعه في يدها بدون أن يراك أحدهم ..
لا تخرج كل العملات من جيبك .. ضع يدك في جيبك وانتقي بها العملة الأكبر هي الجنية .. ها هي على بعد عشرة أمتار منكم .. عندما تكون بمحاذاتها تمامًا انحنى قليلا وضع الجنية في يدها .. سبعة أمتار تفصلك عنها .. على رأسها شال أسود مهترئ .. يشبه شال والدتك .. لكن مع عظيم الاختلاف .. شال والدتك ملمسه ناعم ونظيف تفوح منه رائحتها .. أما شال تلك فمترب مهترئ به أثار تمخط .. خمسة أمتار تفصلك عنها .. التفتت إليكم لما انتبهت للصخب الذي يحدثه أصدقائك رفعت يديها ووجهها المعفر بنظرة مستعطفة .. الجنية في يدك اليمنى .. حتى لا تدرك يمينه ما تنفق شماله ..
فجأة تنتبه إلى أن صوت أصدقائك انخفض .. صوت السيارت أيضًا.. وصوت مروحة الهيلكوبتر في السماء يهدء تدريجيًا .. هل كان هناك هليكوبتر في السماء ! .. الشمس تسطع فجأة تصيب عينيك بعمى لحظي .. تغمضهما بقوة وتنظر إلى أصدقائك وجوههم ضاحكة لكن لا صوت لضحكهم .. المرأة مازالت هناك ماده يديها لكن وجهها بملامح جامدة .
الساعة ستة ونص .. هتتأخر على المدرسة يلا قوم .. قالتها أمك وهي تنقر بأصابعها على باب غرفتك .. لقد كنت تحلم .. هذا صار واضحًا .. صوت الهليكوبتر كان صوت المروحة التي بالتأكيد أغلقتها والدتك كما تفعل دائمًا .. والشمس هي مصباح الغرفة أضاءته والدتك بالتأكيد أيضًا .. صرخت فيها .. شغلي المروحة .. واقفلي النور ثواني .. ترد بعناد .. مش مشغلاها .. يلا قوم .. تفتح عينك بصعوبة تنظر إليها من تحت حاجبك المعقود تفاديًا للضوء .. تأخذ نفس عميق لتصرخ مرة ثانيًا تطالبها بأن تغلق النور .. لكنك .. تنظر إلى والدتك مدققًا .. تلاحظ ذلك الشبه بين والدتك وتلك المرأة .. هناك .. في حلمك ؟!
تمت بحمد الله
( عبدالرحمن سعيد )

زر الذهاب إلى الأعلى