حكم الغناء

حكم الغناء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله قد خلق الإنسان على أحسن تقويم، وجعل له السمع والبصر، وجعل له الفؤاد، وجعل كل ذلك مسؤولًا عنه يوم القيامة، ومن نظر إلى خلقه الذي أمره الله بأن يتفكر فيه ؛ وجد عجبًا من عظيم خلق الله عز وجل، وحسن صنعه، وتمام إبداعه.

ولذلك قال الله عز وجل: ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (الذاريات:21).

السمع والبصر هما أعظم الحواس التي خلق الله الإنسان عليها، ومن أعظم نعم الله عليه.

يقول الله في كتابه العظيم: (( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) (الإنسان:2).

من نظر إلى هذه الآية، وتأملها، وجد فيها من المعاني، العظيمة من تقديم السمع على البصر، وأنها من أعظم النعم التي يستوعب فيها الإنسان دين الله، ويدرك فيها تشريعه.

ذكر الله سبحانه وتعالى السمع والبصر في ( تسعة عشر ) موضعًا من كتابه الكريم، وقدّم السمع على البصر في ( سبعة عشر ) موضعًا، مما يدل على مكانة السمع، وجلالة قدره، وعِظَم نعمته على سائر النِعَم التي وُهِبها الإنسان، ومن لطائف تقديم السمع على البصر في كلام الله، ما ذكره أهل الطب أن سمع الإنسان يتكون تكوينًا تامًا قبل البصر، وهذا تظهر الحكمة فيه من تقديم السمع على البصر، وذلك أن الإنسان بسمعه يكون من أهل التكليف بالجملة، وينفذ إلى عقله وقلبه الأحكام الشرعية والتكاليف.

والأعمى أقل الناس ضررًا في دينه وأكثر ضررًا في دنياه، وأحسن الناس عاقبة يوم القيامة من أهل الأضرار في الحواس، ومن فقد السمع فإنه أقلهما ضررًا في دنياه، وأقلهما نفعاُ في دينه، وذلك أنه بالسمع يفقه التشريع، ويكون من أهل التكليف والامتثال، ولذلك كان السمع بالمقام المحمود في خِلقة الإنسان، والإنسان رزق الصوت الحسن، وأعطي سمعًا يتلذذ بالحسن وينعم به، يقول الله: ((الْحَمْدُ لِلهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)) (فاطر:1).

قال ابن جرير الطبري: في تفسيره عند قول الله سبحانه وتعالى: ((يزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)) (فاطر:1).

إنه حُسْنُ الصوت, مما يتلذذ به الإنسان من جميل القول.

وقد امتدح الله سبحانه وتعالى المنطِق وحُسْنَ المقال, باعتبار وصوله إلى المسامع، فلا يمدح القول إلاّ لأنه مسموع، ولذلك أمتدح الله الصوت الحسن وذمّ المنكر منه، واستنكر الله صوت الحمير: (( إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)) (لقمان:19).

مما يدل على أن ثمّة أصواتًا حسنة تتشنًفَّ بها الأسماع وتتلذّذ بها، وهو من نعيم أهل الجنة, كما قال تعالى: ((فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)) (الروم:15).

جاء في التفسير: أنه السماع، كما روى ابن جرير عن الأوزاعي عن يحي ابن أبي كثير قال: السماع.

وكان من فطرة الإنسان أن يتلذذ بالصوت الحسن الجميل، وهذا من الطِباع التي لا ينكرها أحد، فإن الطفل يأنس بصوتٍ حسنِ يتلذّذ به.

وكما أنه في بني آدم، فإنه في البهائم، فإن الرحل إنما تشد في مسيرها إذا كان صاحبها من أهل الحداء الحسن، وهذا معلوم. 

ولذلك يقول ابن عليّة: كنت أمشي مع الإمام الشافعي رحمه الله فسمعنا صوتًا فمِلنا إليه، فقال لي: أيطربك هذا ؟

قلت: لا، قال : مالكَ ! حسن.

وفي معناه أشعار الحداء في السفر كقولهم في طريق مكة:

بشَّرها دليلُـهـا وقـالا  ** غدًا ترين الطّلْحَ والحبالا

وقد أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بتحسين الصوت بالقرآن، فقال (( ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن )).

وقال- صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: (( ما أَذِنَ الله لشيء إذنه لنبي يتغنّى بالقرآن يجهر به )).

وقوله – صلى الله عليه وسلم- : (( زينوا القرآن بأصواتكم)).

ولذلك اتفق العلماء قاطبة: أن تحسين الصوت من المستحبات، بل قال بعضهم بوجوبه لظاهر قوله – صلى الله عليه وسلم-: (( ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن)).

ذهب جماهير العلماء – ممن نص على تأويل هذا الخبر- إلى أن المراد بالتغني هنا: تحسين الصوت.

قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الربيع-: ( المراد بذلك تحسين الصوت بالقراءة ).

قال ابن عيينة: أن المراد بذلك: الاستغناء بالقرآن عن غيره من المعاني.

 وصوب ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في وجه.

وكلها لها وجةٌ في لغة العرب، والأظهر والمشهور أن المراد بذلك تحسين الصوت، وظاهره يعضده قوله – صلى الله عليه وسلم-:(( زينوا القرآن بأصواتكم)).

وأما حمله على الاستغناء, فقد استنكره الإمام الشافعي رحمه الله فقال: أما قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن)).

لو كان على الاستغناء لكان يقول: ليس منا من لم يتغن.

وقيل: أنهما يحملان على الوجهين كما نص عليه أبو عبيد القاسم بن سلاّم.

وقد استدل بعضهم بقول الأعشى:

وكُنْتُ امْرًَا زَمَنًا بالعِراق ** عَفِيفَ المُناخِ طَويلَ التَّغَنْ

أي : الاستغناء عن الناس وعدم الحاجة إليهم.

ومازال العرب في الجاهلية والإسلام يستحبون الشعر وإنشاده – وحتى أصحاب رسول الله   – صلى الله عليه وسلم- ويتلذذون بذلك, وقد روى البيهقي في سننه بإسناد حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: ( كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رجالًا يقولون الشعر، ويتلذذون به، فإذا أُرِيدَ أحدٌ منهم على دينه دارت حماليق عينيه) 

وذلك أنهم إنما كان يغضبهم فاحش القول والبذيء منه، وما يخرج عن الطِباع من الطرب وغيره.

ومن نظر إلى لغة العرب واستعمالهم للغِناء وجد أنهم يريدون به الشعر، والكلام المسجوع،     فيسمونه غِناءً.

يقول حميد بن ثور:

عجبت لها أنّى يكون غناؤها  **  فصيحًا ولم تفغر بمنطقها فَمَا

وذلك أن الغناء هو ما خرج من الفم مجردًا, ولا يلحق به غيره، فإن خرج مع المنطق، وسُمِع غيره من آلات اللهو، لم يكن من الغِناء المجرد.

ولذلك يسمى ( الحداء ) و( الشعر ) و( الكلام المسجوع ) وكلّه من الغناء، إذا حسن الصوت به، ويظهر هذا في قوله – صلى الله عليه وسلم-:   (( ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن)).

وفي قوله – صلى الله عليه وسلم-: (( ما أذِنَ الله لشيء أذنه لنبي أن يتغنَّ بالقرآن)).

أي: يحسن صوته به، وجلُّ القرآن مسجوع، ولذلك دخل في هذا الباب.

ومن نظر إلى النصوص من أفعال الصحابة وكذلك أشعار العرب وجد أنهم يطلقون الغناء ويريدون به الشعر والحداء، حتى اشكل ذلك على كثير من المتأخرين، وظنّوا أن ما يطلق من أقوالهم يراد به الغناء باصطلاح المتأخرين، وهذا غاية الجهل وسوء الفهم، فإن هذا لم يكن عندهم مطلقًا.

وقد طرأ سوء الفهم عند بعضهم في إطلاقات بعض السلف، وما جاء في النصوص من كلام النبي- صلى الله عليه وسلم- , وكلام الصحابة عند بعض الأئمة من الفقهاء، ولذلك؛ لما ذكر ابن رجب رحمه الله في” ذيل طبقات الحنابلة ” عند ترجمته لعبد الرحمن بن نجم الشيرازي المشهور بـ ( ابن الحنبلي) وهو من كبار الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، حتى لما قدِم إلى ابن قدامة عليه في العام الذي توفي فيه، قال له ابن قدامة: لقد سررت بمقدمك، فإني خشيت أن أموت فيقع وهَنٌ بالمذهب ويقع الخلافٌ بالأصحاب.

لما استشكل وخلط بين الغِناء والحداء أي الغناء الذي وقع عند المتأخرين وبين الحداء الذي جاء عن بعض السلف والصحابة وغيرهم وكتب ابن الحنبلي في ذلك كتابًا عنّف عليه ابن قدامة بقوله: ( وشرع بالاستدلال لمدح الغناء بذكر الحداء، وهذا صنيع من لا يفرق بين الحداء والغناء ولا قول الشعر على أي وجهٍ كان، ومن كان هذا صنيعه فليس أهلًا للفتيا ).

والذي قال هذا القول هو نفسه الذي قد ذكر في كتابه ” المغني ” أن الغناء محلُّ خلاف عند العلماء من الأصحاب، فأي غناءٍ أراد ؟

 الجواب  : أراد الحداء، فإنه قبل وفاته بعامٍ قد شنّع على ابن الحنبلي وذكر اتفاق العلماء على تحريم الغناء.

قال الإمام ابن الجوزي: ” كان الغناء في زمانهم إنشادَ قصائدَ الزهدِ إلا أنهم كانوا يُلحِّنونها “.

ولذا قال بعض الفقهاء بحضرة الرشيد لابن جامع: الغناء يفطر الصائم, فقال: ما تقول في بيت عمر بن أبي ربيعة إذ أنشد:

أمِن آل نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ ** غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر!

أيفطر الصائم؟ 

قال: لا. قال: إنما هو أن أمد به  صوتي, وأحرك به رأسي.

زر الذهاب إلى الأعلى