علاقات زوجية للدكتور احمد خالد توفيق جزء2

قصة قصيرة للكاتب والاديب الطبيب احمد خالد توفيق كاتب سلسلة ما وراء الطبيعية وسلسلة فانتازيا. علاقات زوجية الجزء الثاني.

إلهامي يقول له لم لا تفكر في الطلاق أبوه يبرز من خزانة الثياب ويقول له يجب أن تطرد أم عزيزة.. إلهام فتاة المراهقة تأمره بأن يجمع غبار المقابر .. إنه حبيس في قبر محكم الغلق يحاول التحرر .. يتناثر الغبار ليملأ فمه .. يصرخ فيختنق. يدق بيده على الجدار فتتكون ثغرة يطير منها الحمام الميت …   فجأة هناك بحر من لبن يجب أن يخوض فيه .. في الجهة الأخرى وجه الشمس الصارخة تستغيث به ..

يحاول العبور لكنه لا يقدر .. يوشك على الغرق.. يرى الشمس من جديد ثم يدرك أنها مصباح الغرفة.

إنه نائم على ظهره في الفراش يحاول أن يتحرك بينما ضوء المصباح يعميه.. كانت نوال تطل عليه من أعلى وهي تجفف عرقه .. للمرة الأولى أدرك أن العرق يغمره لدرجة الغرق وأنه يشعر ببرد رهيب.  كما أدرك أن سرواله مبلل .. لقد فعلها.. بدت له قبيحة جدًا مخيفة جدًا وهي عكس الكشاف الوهاج .. قال لها:

«أنا .. أنا مريض جدًا».

حاول أن يقول هذا فخرج الكلام مختلطًا .. أدرك أن نصف فمه لا يتحرك .. لسانه ثقيل .. أصابه هلع كامل..

حاول أن ينهض فلم تطاوعه قدماه ولا يداه .. لا يستطيع ترجمة الانقباضات العضلية إلى فعل نهوض. أنا مشلول أدرك هذا بوضوح فلم يحتج إلى وقت طويل للفهم. نصف جسده الأيمن هامد تمامًا.

قالت له وهو يئن محاولاً إخراج صوت مفهوم:

«لا تقلق .. سوف تكون بخير»

ثم هي تنزع عنه سرواله كطفل .. تجفف ما بين فخذيه ثم تضع سروالاً جديدًا، ثم هي تجلسه بالقوة وتدس وسادة خلف ظهره، وتنزع الثياب عن نصفه السفلي، لتبدلها بثياب أخرى جافة .. ليس هذا الوقت المناسب عليك اللعنة ليس وقت جفاف.. اطلبي الإسعاف

لكنها لا تبدو مهتمة سوى بنظافته .. ثم أنها تدحرج جسده بشكل محترف لليمين لتنزع الملاءة من تحته ثم تدحرجه لليسار لتنزع باقي الملاءة، ثم تدحرجه بالعكس لتدس ملاءة نظيفة تحته.. شعر ببعض الراحة لدى ملامسة القماش النظيف، لكنه ظل ينتظر أن تطلب الإسعاف.. ليس الحين حين ملاءات جافة بل هو وقت أشعة مقطعية ورنين مغناطيسي…

قالت له ضاحكة:

ـ«حاول أن تنام قليلاً .. سوف تكون أفضل »

قال بلسانه المعوج:

«أنا مصاب بجلطة في المخ .. لابد من طبيب أمراض عصبية»

قالت في حزم:

«لا أفهم حرفًا مما تقول .. وفر جهدك .. أنت بحاجة لبعض النوم»

وقبل أن يجد الوقت الكافي كانت قد غابت عن مجال الرؤية .. لقد تركته حيث هو. وأدرك في رعب أنه يبكي بحرارة .. عدم الاستقرار العاطفي يميز جلطات المخ عامة، وقد راح يبكي كطفل في الظلام .. الرعب يغمره والصدمة..

أطفأت النور في الغرفة، ووجد نفسه وحيدًا في الظلام.

******

بعد ساعات من النوم المضطرب المفعم بالكوابيس بدأ يعود لوعيه. لقد صار الأمر ثابتًا وواضحًا .. إنه يمر بالمراحل الأولى من شلل نصفي .. لقد استقر الأمر سواء كان يشكو من جلطة أو نزف فقد صار حقيقة واقعة ..

انفتح الباب وظهرت نوال .. كانت تحمل صينية عليها سلطانية عدة أشياء .. وضعتها على الكومود ثم رفعته بذات القوة، ثم وضعت الوسادة خلف ظهره ليصير في وضع جالس. قال محتجًا:

«طبيب أريد طبيبًا »

قالت كأنها توبخ طفلاً:

«لا تضيع وقتك .. لا أفهم حرفًا مما تقول .. حاول أن تهدأ يا حسن ..»

ثم وضعت الملعقة في السلطانية وقربتها من شفتيه .. حساء لسان عصفور لكنه ساخن جدًا .. حاول أن يعترض لكنها دست الملعقة وأفرغتها .. جففت شفتيه في عصبية ودست ملعقة أخرى.. لا يريد .. تحريك عضلات الفم صعب جدًا لهذا راح يبتلع. هناك صدر دجاجة مزقته إربًا ثم راحت تدس منه في فمه.. ثم أنها جففت شفتيه من جديد، ودست كوبًا من العصير .. هذه المرأة مجنونة إنها تتعامل باعتبار الحياة قد عادت للروتين السابق. سوف يستمر كل شيء كما كان .. لن تطلب عونًا أو الإسعاف بل ستتولى تمريضه وتبديل ثيابه إلى أن يموت .. هذا مستحيل

مضت الساعات .. لا يعرف إن كان هذا نهارًا أم ليلاً.. فقط يرى بصيصًا هزيلاً من النور عبر خصاص النافذة المغلقة. يرى رقصة الظلال في الغرفة وخزانة الثياب الضخمة العتيقة التي اشتراها من دمياط منذ 35 سنة.. الغرفة كلها كانت بمائة جنيه. مع الوقت صارت قطع الأثاث هذه ترمز للهزيمة .. يكره كل ركن في هذه الغرفة، وهو لا يطيق فكرة أن يموت هنا.  كان قد اختار لنفسه ميتة جميلة .. نوبة قلبية وهو  جالس في المقهى وسط الأصدقاء والصخب .. لكن لا يبدو أن هذا ممكن.

لا يستطيع الوصول للهاتف أو طلب العون. ليس له أن يأمل إلا في زيارة من ابنه.

حسن .. أنت وقعت في الفخ .. ألعن فخ يمكن تصوره.

عند المساء – هكذا قدر – ظهرت على الباب وهي تحمل في يدها مبخرة تتصاعد منها سحابة كثيفة من الدخان .. راح يسعل بينما هي تدور في الغرفة وفي فمها لفافة تبغ مشتعلة، ثم وضعت المبخرة جوار الفراش .. رآها تمزق قطعة من الورق على شكل إنسان، ثم تغرس فيها دبوسًا عدة مرات .. رآها مرارًا تفعل هذا من أجل العين تقية الحسد، ثم أنها وضعت الورق في المبخرة ليتوهج ويشتعل .. ظلت تراقب الرماد ثم قالت له:

«هذا وجه فاطمة .. أختك .. هي صاحبة العين »

هو لم ير فاطمة منذ أعوام،  ولا تملك أي سبب لتحسده. إنها ثرية وزوجها طيب وأولادها يحبونها .. لديها كل ما يجعله يحسد فاطمة لا العكس ..

نام لبضع ساعات .. الهم والخوف يثقلان على روحه. يا رب ..  خذني الآن وفورًا قبل المزيد من العذاب.  هذه المرأة قادرة على أن تخسف بي الأرض ..

لما فتح عينيه أدرك أن في الغرفة ضوءًا خافتًا .. الضوء قادم من شمعة مضاءة هنا في صحن من الماء. جوار الشمعة استطاع أن يرى سيدة جالسة .. إنها نوال بلا شك .. تغطي وجهها بالكامل بقطعة من القماش .. وتحت القطعة كانت تتكلم .. تصدر أصواتًا مخيفة كأنها في جلسة روحانية تلعب دور الوسيط..

أرجوك يا إلهي ..  خذها أو خذني الآن.

موعد حساء لسان العصفور..  في طفولته كان يعتقد أن هذه ألسنة ألف عصفور تم تعذيبه واقتلاع لسانه. وكانت الفكرة تثير ذعره. اليوم يشعر بالرعب ذاته ونوال تدس الملعقة في فمه ..

بعد الأكل دست الأقراص التي يتعاطاها بين شفتيه مع رشفة ماء. لربما أعطت نفس القرص مرتين أو أغفلت قرصًا، ثم من قال إن العلاج الذي كان يتعاطاه ما زال صالحًا

سال الدمع من عينيه حارًا ثخينًا وصرخ:

«أريد طبيبًا .. أريد المستشفى »

لكن الصوت خرج منه غير مفهوم .. كل الحروف مدغمة، وقد بدا بعض التأثر على ملامح المرأة ومصمصت بشفتيها، وقالت:

ـ«لا أفهم حرفًا .. حاول أن تهدأ .. مسكين »

وعندما يتوغل الليل كانت تحضر مقعدًا وحزمة خيوط الكانافاه .. ثم تجلس بقربه معتقدة أنها تبعث الدفء العائلي في الجلسة. وكان هذا مزعجًا لكنه أرحم قليلاً من تلك الليلة السوداء التي راحت فيها تتصل بالأرواح.

تجلس على بعد متر منه تنسج. والحقيقة أنها كانت تجيد الكانافاه فعلاً فكانت تصنع لوحات ضخمة متقنة. الجنون لا يرتبط بانعدام الموهبة ..

كنت تقول له بنفس النغمة الرتيبة كل ليلة:

ـ«عندما ذهب الخادم ليسجل اسمي في مكتب الصحة، خجل من أن يسميني نوال هكذا، فقال للموظف إن اسمي نوال هانم. كنت مولودة وفي فمي ملعقة من ذهب .. درست في مدرسة … حيث صارت الفرنسية تتدفق على شفتي. ولا أذكر يومًا لم تأت السيارة لتقلني من وإلى المدرسة.. قالت لي أمي إنني سأتزوج ملكًا أو أميرًا. عندما تقدمت لي وأنت من أسرة فقيرة خطر لي أن الأمر سيكون رومانسيًا، وإنك نموذج الشاب المكافح الذي شيق طريقه إلى القمة كما يحدث في الأفلام. كنت صاحب عينين حزينتين شفافتين وكلمات منتقاة بعناية. وقد قالت أمي إنك لا تصلح .. قال أبي إنك لا تصلح .. لكني أصررت على رأيي، واعتقدت أنني سأكون سعيدة مع شخص أكافح معه»

ثم تنفث سحابة دخان كثيفة وتردف:

«صرت أنا مديرة مهمة في التربية والتعليم، بينما ظللت أنت تتعثر كمدرس .. تحاول ان تصنع مالاً من الدروس الخصوصية. كنت تكافح لكنك لا تملك مؤهلات النجاح .. قبل أن أتساءل عما إذا كنت قد أحسنت الاختيار كان الأولاد قد أتوا .. نرمين وعماد .. وانهمكت في لعب دور الأم المخلصة ونسيت نفسي أعوامًا طويلة .. غيبوبة عشت فيها 35 عامًا إلى أن تزوج الجميع وخلا المسرح من المتفرجين. عندها أدركت الحقيقة: أنا أسأت الاختيار»

نظر لها في رعب .. إلام تفضي هذه المقدمة إذن ماذا تحاول قوله

رأت الرعب في عينه فقالت وهي تسعل:

«لا تخف .. ليس معنى أنك لم تكن مناسبًا أنني أكرهك. سوف أعنى بك كأي زوجة محترمة يمرض زوجها، أنا بنت أصول ولسوف أريك معنى هذا ..»

كانت العبارة الأخيرة مخيفة ولا تبعث الراحة في النفس. ثمة عبارات لها تلميحات غامضة..

كانت تحلم:

«عندما ولدت نرمين .. شعرت بأنني مستعدة كي أتصالح مع العالم .. كانت أقرب لدمية صغيرة جميلة، وقد شعرت بامتنان لك لأنك منحتني إياها .. أعتقد أنني قضيت أسعد 28 عامًا في حياتي لوجود هذه الدمية معي. كان عماد مختلفًا .. كان أقرب إلى الحرص على مصلحته وقد قلت لي مرارًا إنك تعرف أن علاقته بنا ستنتهي عند زواجه .. الواقع أن هذا كان صحيحًا. يعطيني عماد دومًا الشعور بأنه مشغول جدًا ولا وقت لديه لكلام البنوة الفارغ. كان المرء متأهبًا ليبدأ حياة جديدة بعد رحيل الطفلين.. لكن الأمر يذكرني بدعابة الأحمق الذي كان يتدرب على الهبوط بالمظلة. قيل له اجذب الخيط لتنفتح المظلة على ارتفاع 300 متر، ولكنه نسي .. نسي فلم يتذكر إلا على ارتفاع 25 مترًا. قال لنفسه: لا مشكلة .. سوف أثب هذه الأمتار القليلة .. »

وراحت تضحك والسعال يشخشخ في صدرها .. كل لفافات التبغ بالداخل تريد التحرر، ثم قالت:

«هذا ما حدث معي .. قلت لنفسي إن ما بقى فترة قصيرة جدًا .. فلأتحملها إذن .. »

ثم قطعت خيط الكانافاه وقالت:

«لكن الفرصة اليوم قد جاءتني لأعنى بك .. لأقدمن لك خدمة العمر .. لسوف تحمد الله على أنني زوجتك»

ودفنت لفافة التبغ في المطفأة ثم نهضت تاركة رائحة الغرفة خلفها لا تطاق ..

******

جرس الباب يدق في إلحاح …

ثم صوت زوجته تصيح:

ـ«أنا قادمة»

تدفع شحوم جسدها وتقود ردفيها نحو الباب وهي تلهث كديناصور من العصر الباليوزي. يمكنه أن يراها تمشي كبطة بسبب آلام قدميها. يسمع صوت الباب ينفتح .. هذا حادث فريد من نوعه لأن أحدًا لم يعد يزورهم، ونوال تنزل مرة كل أسبوع لتبتاع حاجيات البيت بعد ما طردت مقصوفة الرقبة ..

صوت الباب ينفتح، ثم صوت مألوف يقول:

ـ«هل أستاذ حسن بخير »

أنا هنا يا رجائي .. رجائي المحامي الأصلع العزيز …

صوت نوال:

ـ«هو في الإسكندرية مع ابنه منذ فترة»

«لقد كف عن المجيء للمقهى منذ فترة. هاتفه غير متاح أو مغلق .. لم تكن هناك طريقة للاطمئنان عليه، وقد طلب مني الرفاق أن أطمئن عليه.. »

صوت نوال:

«الحمد لله هو بخير .. زيارة مفاجئة، لكن ابنه أصر على استبقائه»

بدأ حسن يزوم بصوت عال .. راح يضرب الفراش برأسه ويصرخ ..الغوث … انا هنا يا رجائي .. تعال لتنقذني ..  خذني إلى المستشفى. مد يده السليمة .. بصعوبة استطاع أن يلمس الكوب .. رفع ذراعه ثم ألقى به بقوة.. اصطدم بالجدار فتهشم إلى عشرات القطع. لا شك أن الصوت كان عاليًا جدًا …

صوت رجائي:

ـ«هل هناك أحد هنا »

قالت نوال في لهجة عابرة:

ـ«لا شيء .. إنه القط قد أسقط كوبًا بلا شك»

«هل لديكما قط »

ضحكت ولم تعلق .. ثم عادت تسأل بصوتها الخشن:

«لم لا تتفضل بعض الوقت »

كانت عزومة مراكبية طبعًا، فشكرها بحرارة وارتباك وانصرف .. وسمع حسن الباب ينغلق. هذا باب أمل يغلق، فالرجل اطمأن على صاحبه ولن يرجع. لن تكون هناك محاولات أخرى قبل شهر.

ظهرت نوال على باب الغرفة .. نظرت له حيث رقد على الفراش، ثم اختفت وعادت حاملة مكنسة وجاروفًا .. وراحت في صبر تجمع بقايا الكوب المهشم من على الأرض.. لم تقل شيئًا ولم تلمه .. رباه .. لم تقل شيئًا ولم تلمه .. هذه المرأة تزداد خبالاً..

صحا من النوم .. لعلها كانت الثالثة بعد منتصف الليل. كان غارقًا في العرق يلهث ..

حرك ذراعه اليمنى وثنى اصابعه .. استغرق لحظة ليدرك أنه حرك أجزاء مشلولة من جسده .. إنه يتحسن .. لعل النزف ينحسر أو لعل أوعية جديدة تغزو الجلطة. ما زال واهنًا تمامًا، لكنه مع التمرين اليومي يمكن أن يتحسن أكثر .

لم يرد أن يخبرها … هو يخشاها كالجحيم.  من الأفضل أن يبقي ورقة في كمه.

لكنه لم يعرف أنها بدورها تخفي أوراقًا كثيرة في كمها.

كان يخشى أن يجرب صوته فتسمعه .. فضل الصمت وإصدار صوت خرير .. لا يضمن ما سيحدث لو اكتشفت أنه صار قادرًا على نطق الحروف. لكن هل هو قادر فعلاً   لا يدري.

يقضي الوقت في الظلام يفتح ويغلق أنامل يده اليمنى محاولاً الحفاظ على هذه الهبة التي ظفر بها ..  وراح يثني الرسغ ثم يحاول فتحه باليد اليسرى .. يثني الساعد ثم يحاول فتحه. أربع وعشرون ساعة من التمرين ..

لا شك أنه بدأ يتحسن .. لكن ماذا لو صارحها بذلك لا شك أنها ستزيد القيود عليه.

عليه أن يختزن قواه ويتأهب للحظة المناسبة ..

هناك كان أبوه المتوفى يقف جوار الفراش يهز رأسه في أسى وينفث دخان التبغ:

ـ«لشد ما آذتك يا بني .. تلك الشمطاء لم تكن مناسبة لك كما قلت لك»

تقول الأم وهي تستند إلى العكاز:

ـ«أنت لم تصدق أن فتاة أرستقراطية كهذه معجبة بك .. أصررت على أن تتزوجها وكان عليك أن تدفع الثمن. لعلك لم تجرب السعادة يومًا واحدًا في حياتك»

يدنو أبوه من الفراش وينحني ليجثو على ركبتيه ويلقي نظرة، ثم يقول في أسى:

ـ«هي كذلك تتسم بالقذارة .. لم تنظف ما تحت الفراش من فترة، والآن أرى أن ثعبانًا يلتف هناك »

يصرخ حسن في جزع:

ـ«أنت تبالغ يا أبي .. مستحيل أن يكون هذا حقيقيًا»

يقول الأب في حكمة:

ـ«لو أن بوسعك أن تزحف تحت الفراش لرأيت ما أعنيه .. على كل حال من الواضح أنه ليس ثعبانًا سامًا. هي فقط تمارس طقسًا سحريًا ما»

قالت الأم في شفقة:

ـ«هناك وطواط ميت في خزانة الثياب .. الواقع أنك تعيش في وكر ساحرة يا بني. والمشكلة هي أنك غير قادر على الهرب »

ثعبان .. هل هي هلوسة أم أن هذا حقيقي. زحف إلى حافة الفراش وتحامل على نفسه ليلقي نظرة .. هناك من تحت الفراش رأى الشيء الأسطواني البشع يزحف بشكل بطيء شرير .. أصابته حالة هستيريا فراح يصرخ .. يصرخ بصوت رفيع كأنه فتاة مراهقة .. إن هذا صحيح .. رباه .. إن هذا صحيح .. رباه .. أبوه على حق..

ومن مكان ما ظهرت نوال زاحفة كالديناصور .. تجر ردفيها الهائلين والسيجارة بين شفتيها. وقفت على الباب تحاول الفهم بينما هو يكرر في جنون:

ـ«ثع.. ثع .. ثعبان »

قالت بلهجة باردة:

ـ«أنت صرت مخرفًا بالكامل»

ودت من الفراش ووقفت ترمقه للحظة، ثم أنها انحنت ورفعت طرف الملاءة .. لم يعد هناك شيء على الأرض .. اختفى الجسم الأسطواني.  قالت له:

ـ«ثعبان .. أين هو »

الواقع أنه لا يوجد شيء .. لكنه كان متأكدًا من أن حواسه لم تبلغ هذه الدرجة من الهذيان ..

ابتعدت بعض الوقت، ثم أنها عادت للغرفة .. كانت تحمل إناء من البلاستيك و.. وسكينًا ..  ومنشفة ….راح يرمقها بعينين خرساوين، بينما كانت هي تضع المنشفة تحت رأسه وتحكم وضعها بحيث لا تتسخ الوسادة ..  كانت تلهث من الجهد .. قالت له وهي تجلس على حافة الفراش:

ـ«فيما مضى كنا نلجأ إلى الصفد .. كان هناك حلاق صحة في كل حي، لديه مرطبان مليء بالعلق .. وكان يستخدم هذا العلق في امتصاص الدم الفاسد .. ثم مع الوقت عرفنا الحجامة .. إنها علاج شعبي معروف ومفيد»

فتح فمه معترضًا، لكنها كانت قد وضعت الوعاء البلاستيكي تحت رأسه كأنها ستنحره .. حاول المقاومة فثبتت رأسه بيدها الخشنة، ثم أنها هوت بطرف السكين الحادة على جانب صدغه ..

ـ«الحجامة .. سوف تريحك حقًا »

راح يئن بينما هي تحدث جرحًا .. جرحين …  ثلاثة جروح متوازية .. ينهمر الدم ليملأ الوعاء ..

ـ«هذا كله دم فاسد …»

في النهاية راحت تكبس الجروح بقطعة شاش قوية الرائحة. أدرك أن هذه رائحة بن .. البن يوقف النزف حسب الاعتقاد الشعبي، ثم أنها بدأت تضميد موضع الجروح وألصقت لكثير من البلاستر ثم حملت الوعاء ..

ـ«غدًا نكرر العلاج »

ظل راقدًا وحده في الظلام يقاوم الألم الكاسح الذي يمزق جبهته. يرتجف من الداخل بلا توقف. هنا دنا أبوه من الفراش ووضع يده الباردة على جبينه .. قال له:

ـ«لم يعد هناك سوى حل واحد»

ـ«وما هو »

ـ«نوال يجب أن تموت»

قال حسن وهو يضغط على أسنانه ألمًا:

ـ«أولاً لا أستطيع أن أفعل .. ثانيًا من يعنى بي لو ماتت هي تطعمني وتبدل ثيابي»

ـ«لربما كان الموت من دونها أسهل وأقل تعذيبًا»

لم يستطع أن يواصل المحادثة لأنه فقد وعيه من شدة الألم .. غيبوبة لها رائحة البن والدم معًا …

عندما فتح عينه استطاع أن يرى ذلك الشيء على الجدار .. يمشي على خزانة الثياب في رشاقة غير مبال بقوانين الجاذبية .. إنه فأر لم يستطع أن يفهم إن كان هذا فأرًا متسللاً أم أن المرأة هي التي أتت به.  لا داعي للصراخ فهي سوف تؤكد أنه لا يوجد أي فأر هنا ..

ثمة شيء في الضوء الخافت في مجال عينه ..

التفت ليلقي نظرة .. أدرك أن هذا الشيء هو سكين الفاكهة موضوعة على الكومود الأيمن. سكين مدببة جميلة المنظر. بصعوبة راح يسند يده اليمنى باليسرى إلى أن تمكن من أن يوجهها .. تحررت يده اليمنى ثم بدأت تزحف إلى السكين .. في النهاية أطبقت يده عليها. ناولتها يده اليمنى ليده اليسرى وبعد جهد جهيد استطاع أن يضعها تحت الوسادة ..

الصباح:

كانت قد جاءت حاملة حساء لسان العصفور .. أجلسته في الفراش ثم بدأت تدس الملعقة بين شفتيه ..

ـ«هل تعرف يا حسن أنا فعلأً أميل لك بوضعك الحالي .. عديم القوة تعتمد بالكامل علي.  أشعر بأنك طفل رضيع وهذا الشعور يروق لي .. أتمنى ألا تشفى أبدًا»

قالتها ولم تضحك .. وجففت الطعام عن شفتيه ولم تنتظر كي يبلع بل دست ملعقة أخرى، ثم قالت:

ـ«أنت تتحسن بفضل الحجامة .. اليوم سوف آخذ المزيد من الدم ..»

كانت هذه هي اللحظة ..مد يده تحت الوسادة .. أطبق على السكين. انقض على عنق المرأة وقد قرر أنه لا مجال للتردد .. لو لم تمت فهو ميت .. انغرست السكين في عنقها فنظرت له بغباء. أخرج السكين بصعوبة وغرسها من جديد. أنشبت نوال مخالبها في عنقه وجحظت عيناها غضبًا ..  لكن فاتها الوقت كي تتجنب طعنة ثالثة ..

سرعان ما تهاوت لتسقط على الأرض وسط بركة من الدم .. أطلقت بعض الضوضاء ثم همدت تمامًا..

تحامل على نفسه حتى سقط من فوق الفراش فوق جسدها البدين .. ثم بدأ يزحف نحو الباب .. لابد أنه زحف ربع ساعة نحو باب الشقة. يجب أن يفتح باب الشقة بأي طريقة لكن كيف …  كيف يرتفع إلى مستوى المقبض لا يوجد مزلاج لكن هذا لم يحل المشكلة…

هناك رقد خلف الباب يوجه له اللكمات بيده اليسرى ويصرخ ….

لابد أنه فقد الوعي للحظات ..

عندما فتح عينيه من جديد أدرك أنه في مأزق خطير.  سوف يموت جوعًا بالتأكيد .. لربما كانت هذه غلطة عمره لكنه لن يندم عليها أبدًا ….

سمع صوت مفتاح يدور في الباب فتراجع للخلف في لهفة … هذا شخص يملك مفتاح الشقة ..

انفتح الباب وظهر ابنه ينظر لأبيه الراقد على الأرض في دهشة .. لقد عاد من الاسكندرية..

ـ«بابا .. ماذا حدث »

لكن الأب لم يجب لأنه فقد وعيه ثانية.

تمت.

زر الذهاب إلى الأعلى