علاقات زوجية للدكتور احمد خالد توفيق جزء1

قصة قصيرة للكاتب والاديب الطبيب احمد خالد توفيق كاتب سلسلة ما وراء الطبيعية وسلسلة فانتازيا. علاقات زوجية الجزء الاول.

في عيد زواجهما الخامس والثلاثين اعترف حسن ونوال أن زواجهما كان غلطة العمر. أنت ترتكب خطأ وتنزلق إلى علاقة ثم خطبة ثم زواج .. بعد هذا لو كنت محظوظًا يأتي الأطفال .. تبدأ دوامة المدارس والتربية .. التخرج .. الزواج .. ثم يرحلون .. عندها تفيق للمرة الأولى لتدرك أنك لم تكن تريد الزواج أصلاً

كانت نوال من أسرة ثرية أرستقراطية، وكانت تحتفظ بطابع متعال يصعب ترويضه، أما حسن فكان من نفس طبقتك وطبقتي وقد فاز بها بمعجزة .. هو رجل مكافح من الذين يعودون للبيت ببطيخة والعرق يغمر تحت إبطهم، وكان يقول عن أمه أمي وليس ماما أو مامي ، وكانت له قرية يرتبط بها كثيرًا. كان حسن مدرسًا للأحياء وقد قضى حياة شريفة من الكفاح .. وله تلاميذ محبون. أما زوجته نوال فكانت مديرًا في وزارة التعليم، وقد زادها هذا غرورًا لأنها أعلى منصبًا من زوجها.

في سن التقاعد انتقلا ليعيشا في ضاحية بعيدة من المدن الجديدة، وهي حياة أقرب إلى العزلة التامة. الابنة في الخارج .. في كندا بالذات مع زوجها. الابن محاسب يعمل في الإسكندرية وهو مقل في زياراته جدًا.  فقد الزوجان أملهما في أحفاد يملئون البيت ويجعلون الفصل الأخير من حياتهما ممتعًا. الأحفاد مخدر جميل آخر يحفظ العلاقات الزوجية.  أحيانًا تستعين الزوجة بفتاة بائسة تقوم بتنظيف البيت وشراء الخضر واللحم من السوق، ثم تشاجرتْ معها – بسبب حدة طبعها – واتهمتها بالإهمال والقذارة وانعدام الأمانة ..  وطردتها شر طردة.

«هؤلاء الخادمات لعنة كارثية »

قالتها في قرف وهي تدخل المطبخ لتكمل الطبخة التي بدأتها الفتاة ولم تكملها.

مع الوقت تعلم حسن أنه من الخير ألا يتكلم إلا فيما ندر. مع الوقت صار الكلام بينهما شحيحًا حتى أن لسانه كان يتعثر في نطق بعض الكلمات لأنه قد يمر يوم أو اثنان دون أن ينطق بكلمة واحدة، وكان هناك مقهى قريب اعتاد أن يتردد عليه .. هناك يشرب قدح قهوة ويدخن الشيشة ويحاول أن يستعمل تلك النعمة التي أعطاها الله له : اللسان. لم يكن يتابع الكرة لكنه تظاهر بأنه زملكاوي متعصب فقط من أجل الجدل .. لم يكن يهتم بالسياسة لكنه راح يتظاهر بأنه معارض صلب من أجل الجدل .. لم يكن يحب لعب الطاولة لكنه علمها لنفسه.

كان يرفض فكرة الطلاق .. لم يعد هناك متسع من الوقت لعمل ذلك. يكفي أن يتجنب لدغاتها ولسانها السليط، ويحاول ألا يشتبك معها في الكلام، وهو يعرف باقي القصة: ذات يوم سوف تجده جالسًا في مقعده في الصالة فتناديه فلا يرد .. تهزه فتكتشف أنه أسلم الروح بنوبة قلبية. ستكون هذه أسعد لحظة في حياتيهما معًا .. إنها تستحق حياة الوحدة والملل.

في الأمسيات الكئيبة – وكل أمسياتهما كئيبة – يجلسان أمام التلفزيون صامتين يشاهدان فيض الصور الملونة، ومن حين لآخر تقول عبارة على غرار:

«عاهرات .. كلهن عاهرات »

أو:

«إن الأوغاد في كل مكان اليوم.»

فيغمغم موافقًا .. بينما تمد هي يدها لعلبة التبغ السوبر فتشعل لفافة وتضع ساقًا على ساق وهي تسحب نفسًا عميقًا .. لقد تعلمت التدخين بعد سن التقاعد، وهو كان يمقت التبغ ورائحته، لكنه شعر بأن هذا يتفق مع شخصيتها.  لابد من اكتمال الصورة.  ينظر لوجهها المجعد وشفتيها القاسيتين المزمومتين وهالة الشعر الأشيب وزجاج النظارة الذي تنعكس عليه الأضواء. عندها كان يشعر كأن هذه المرأة هي الموت.

لم تكن صحته على ما يرام. ارتفاع ضغط الدم كان شديدًا وقد أخبره الطبيب أن عليه أن يفعل شيئًا بسرعة. اضطر لخفض وزنه وقلل الملح في الطعام وراح يبلع ترسانة كاملة من غالقات قنوات الكالسيوم وغالقات البيتا. لكن جسده لم يعد يعمل جيدًا .. كان يدرك هذا ويفهمه.. ومع الوقت لم يعد يذهب للمقهى كثيرًا، لأن صعود وهبوط الدرج لم يعد مريحًا…  كان يقف أسفل الدرج ويتنهد وهو يفكر في عدد الدرجات التي عليه أن يصعدها. ثم يتوكل على الله ويرفع قدمه.

أما الزوجة فكانت صحتها ممتازة، لكنه بدأ يدرك أن عقلها ليس على ما يرام.

كيف عرف هذا

كانت لا تكف عن الحديث عن الجان والعفاريت .. صارت تراهم في كل مكان من الشقة، وتتحدث عن أنها تراهم في كل ركن وأنهم يتواجدون معها في الحمام.  كانت تنثر الملح في البيت في أوقات معينة .. وكانت مولعة بالبخور إلى حد كبير.  أي أن رائحة البيت كانت خليطًا من السجائر والبخور.

أم عزيزة كانت هي المعلم الخصوصي للسحر الذي يزور المرأة بانتظام. سيدة ريفية مدثرة في ثياب سود ولها نظرة ثاقبة شريرة، وكانت تزور الزوجة بانتظام كل أسبوع تقريبًا حيث تمضي معها بضع ساعات.. تشربان القهوة ثم تقلب القدح لتقرأ البخت لنوال. وعندما يعود من المقهى كانت أم عزيزة ترخي الطرحة على وجهها وتعلن أنها أطالت الزيارة وعزيزة وحدها في البيت.

لم يحاول أن يسأل نوال عن هذه المرأة لكنه قدر أنها هي التي علمت زوجته السحر، وكان للمرأة حضور غير مريح موجس كريه. ذات ليلة قال لنوال بشكل عابر إنه لا يرتاح لتلك المرأة.

«سيدة مسنة مثلك وتعيش هي وزوجها وحيدين ..ألا يبدو الأمر كبداية ممتازة لقصة في صفحة الحوادث »

قالت في سخرية:

«وهل تعتقد أن أم عزيزة ستقتلنا وتسرق البيت »

ـ«ليس أم عزيزة لكن زوجها .. وهو على الأرجح مدمن مخدرات لا يتورع عن شيء.. »

قالت في عصبية وهي تشعل لفافة تبغ أخرى:

ـ«لست طفلة صغيرة .. أعرف كيف أعنى بأموري»

وكانت هذه هي نهاية المحادثة، لكنه كان يشعر بأنه زوجته تقع تدريجيًا تحت تأثير أم عزيزة .. وكانت المرأة تحضر لها أشياء غامضة في لفافات كانت نوال تخفيها في حرص.  كان هو يتخيل ما يمكن أن يكون هناك .. لابد أن ضمن هذه الأشياء تراب مقابر .. لا يتم أي سحر حقيقي من دون تراب مقابر.

كان يشعر بقلق من اضطراره للحياة مع امرأة متسلطة عصبية، ثم – والأدهى – مجنونة.

الأمر يتشكل ببطء .. في البداية يشعر بأنها تغيرت .. ثم يشعر بأنها تسوء .. ثم يفيق ذات يوم ليجد امرأة يسيل اللعاب من فمها ومنكوشة الشعر .. عندها يفطن للحقيقة: هي مجنونة تمامًا.

كان مستعدًا لتقبل حياته بهذا الشكل، إلى أن جاء اليوم الذي دخل فيه الحمام بعدها. ثمة شيء مريب هنا. ثم فطن إلى أنه يعرف هذا الشيء .. لبن .. لقد نفذت زوجته كتاب السحر حرفيًا فاستحمت باللبن

لم يكن ثمة مجال للخطأ فاللبن في كل مكان من الحمام .. لا أحد يخطئ ويسكب اللبن – حتى لو فسد – هناك.  وقد شعر بدرجة من التقزز فالمصريون يعتبرون اللبن والعسل سائلين مقدسين نوعًا لا يقبلان الإهانة ..

تناول كوز الماء المعدني وراح يحاول غسل هذه المأساة، وبالطبع أدرك أنه لن يكلمها عن هذا. إما أن تكون هذه آخر شعرة في عقلها فتنفجر فيه، وإما أن تؤكد وتقسم أنها لم تفعل وأن الجان هو الفاعل ..

أنت لا تستطيع لوم نوال على شيء .. اللوم يحتاج إلى درجة من المودة والتواصل غير موجودة هنا..

مرت عدة أيام من الصمت، لكنه بدأ يلاحظ ممارسات أعقد .. هناك كيس الغبار الموضوع على البوفيه. بالتأكيد هو غبار مقابر. لقد جاء دوره منذ زمن، وهو لا يجرؤ على فتح اللفافة ..

ما فعله هو أنه حمل اللفافة وألقاها في صفيحة القمامة وأغلقها، وفي اليوم الثاني كانت زوجته تفتش كالمسعورة عن هذا الشيء المختفي. شعرها الأشيب ونظراتها المجنونة وبدانتها وهي تمشي كالبطة محاولة أن تحرك عظمتي الحرقف .. لكنها والحق يقال كانت تمشي بسرعة وخفة، وكم من مرة فوجئ من خلفه بوجودها. لقد دخلت الغرفة دون أن يعرف كيف ولا متى ..

كان يفضل الصمت، وراح يتردد على المقهى لساعات أطول لدرجة أنه نام ذات مرة وهو جالس على المقعد الخشبي فبردت القهوة التي طلبها. ولم يفق إلا مع لمسة من يد القهوجي على ساعده ..

ـ«خير يا أستاذ حسن .. هل أنت مريض »

ـ«أنا بخير .. فقط لم أنم بما يكفي»

صار مع الوقت يخشى لحظة العودة للبيت، خاصة عندما تجلس معه أمام التلفزيون لمشاهدة المسلسلات.. شفتاها تتحركان بكلمات هامسة طيلة الوقت. لم يعرف قط ما تقوله لكنه كان يخشاه ..

أرسل لابنته في كندا خطابًا طويلاً.. يكتب بصعوبة بسبب مشاكل البصر .. كتب لها يقول إنهما بخير من الناحية الصحية والمادية، لكن عقل أمها لم يعد على ما يرام. كان يدرك أن الابنة سوف تتجاهل هذا .. تهمة الجنون تلصق بأمها في كل المشاجرات الزوجية منذ زمن، وسوف تعتبرها الابنة تهمة أخرى. كان هو قد اتهم أسرتها كلها بأنها تحمل جينات الجنون .. أطلق هذا الاتهام منذ عشرين سنة ..

اتصل بابنه في الإسكندرية وقال له إنهما بخير ..

ـ«ألا تنوي أن تمر علينا قليلاً »

«هل هناك مشكلة ما »

ـ«قلت لك إننا بخير .. لكن حالة أمك العقلية تثير قلقي»

«مثل … »

ـ«تزداد إيمانًا بالسحر والجن والعفاريت .. إنها تلك المرأة المسنة أم عزيزة. جعلتها تعيش في عالم من الشياطين تراهم وتلمسهم كل يوم .. لا أعرف ما أفعله. ربما لو أنك زرتنا بعض الوقت»

كالعادة لا وقت لدى هذا النذل كي يساعد في إعادة الدفء لبيتهما.. أنا مشغول جدًا يا بابا .. خلافاتكما شيء لا يمكن إصلاحه إلا من خلال علاقتكما ببعض..  لكن .. سوف آتي للقاهرة لكن ليس هذا الشهر أرجوك .. أنت تعرف ظروف البيت والأولاد والعمل ..

هكذا وضع السماعة وقرر أن الله هو الحافظ الوحيد. لن يستطيع أحد أن يعيد زوجته للتعقل سوى زوجته أو أم عزيزة ..

صار الأمر لا يطاق عندما فتح صفيحة القمامة ذات يوم فوجد فيها حشدًا من الحمام المختنق .. حمام ميت لا يقل عدده عن عشر.. نادى زوجته في غضب وقال لها إن الأمر لا يطاق .. لن تزعم أنها اشترت هذا الحمام ميتًا .. لن يمر وقت طويل قبل أن تمتلئ هذه الصفيحة بالوطاويط ..

قالت في تبجح:

ـ«وكيف لي أن أعرف أنا لم أضعه هنا»

ـ«وأنا كذلك لم أضعه هنا»

ـ«إذن هم بسم الله الرحمن الرحيم .. ليس لدي تفسير آخر»

ثم أشعلت لفافة تبغ وابتعدت تاركة إياه يغلي غيظًا ..

في ليلة 18 ديسمبر ذهب إلى المقهى. كانت هناك مباراة كرة لا يهتم بها، لكنه راح يتابعها ويهلل وهو يحسو القهوة .. جاء رجائي المحامي المسن وجلس معه. شلة المقهى تكتمل ككل ليلة وهم كلهم مسنون سوف يموتون واحدًا تلو الآخر. رجائي المحامي في الستين الآن ويعاني الصلع لكنه يصفف شعره بالماء والفازلين بطريقة تغطي هذه الصلعة تمامًا، لكن هذه العجينة تتلاشى في لحظة بعينها فيبدو منتفش الشعر كالديك.

لما انتهت المباراة وبدأ المقهى يخلو من الزبائن قال له رجائي:

ـ«تبدو مرهقًا حزينًا»

«إنها نوال كالعادة»

«لم لا تفكر في الطلاق .. يجب أن تمضي آخر أعوام لك في سلام»

ـ«تعنى بي»

ـ«يمكنك أن تجد من تعنى بك بأجر .. أو اذهب لتقيم عند ابنك في الإسكندرية»

لكنه كان يعرف أفضل .. هو وزوجته أفضل اثنين لبعضهما حاليًا، وعلى الأقل لن يموت أحدهما جوعًا .. ليس أمامه من ملجأ سواها في الأعوام القليلة الباقية .. لن يتركها تموت وحيدة ولن تتركه يموت وحيدًا. لربما كان الموت في وجود غول معك في الغرفة أفضل نوعًا من الموت وحيدًا.

ودع رجائي ووعده بأن يهتم بصحته .. ثم عاد في بطء وتثاقل للبيت، وهو يشعر بأن المسافة عدة أميال. المشكلة هي صعود الدرج المتعب .. المشكلة هي نزع الثياب الثقيلة .. المشكلة هي النوم جوار تلك الشمطاء. لكن العشاء ينتظره على الأقل ..

في الأيام التالية صار أكثر بقاء في البيت، وصار ينام على الأريكة ساعات طويلة وفمه مفتوح من إرهاق.. حتى أنه قدر ساعات نومه بخمس عشرة ساعة يوميًا .. ليس أقل من هذا .. ولم تكن هي توقظه أبدًا ..

هل هي تمارس السحر معه هل تدس له شيئًا في طعامه لم يبدُ له هذا منطقيًا فهي في النهاية لا ترغب في حياة الوحدة .. امرأة مزعجة لكنها بشرية على كل حال ..

الجواب هو أنه يتقدم في العمر .. لا شك في هذا .. الباب الذي في نهاية الردهة بدأ ينفتح ..

كان جالسًا يشاهد مسلسلاً سخيفًا في الصالة وهي في غرفة النوم، عندما شعر بسخونة غير عادية .. ماذا حدث نحن في ديسمبر .. العرق يسيل وصفير مدو في أذنه .. ماذا يحدث .. صداع رهيب كأن هناك من يشق رأسه بمنشار. العرق .. إنني أختنق .. الصالة تظلم وشاشة التلفزيون تشحب ..

«نوااال »

قالها في رعب لكن الصوت خرج مكتومًا ..  أدرك أنه لا يستطيع الكلام بشكل صحيح. الحروف تخرج من فمه معجونة ..

عندما حاول النهوض أدرك أنه لا يملك القدرة بتاتًا .. جسده متدلٍ بلا حبال تمسك به. الصفير يتعالى .. إنه الفالج لا شك في هذا .. هناك سكتة دماغية أو جلطة أو نزف .. المهم أنه شيء ما لعين حدث هناك …

نوال .. ناداها في وهن …

كان وعيه ينسحب ببطء وخطر له أن هذا هو الموت ..

زر الذهاب إلى الأعلى