عن أمثالنا وأمثالهم

د. يسري عبد الغني عبدالله – باحث وخبير في التراث الثقافي / مصر

جدير بنا وبكافة الأمم أن تتدارس حكمها وأمثالها ، فهي خير سجل لتاريخ تطورها العقلي وتقاليدها وعاداتها وأعرافها .

وقد تعلمنا أن المثل يأتي من حادثة تقع ، ويدور فيها القول ، وتأتي من بين الكلمات عبارة مركزة قوية في تلخيص الموقف ، أو استخلاص العبرة منه ، فيكون وقعها قوي على السامع ، وتتلقفها الألسنة ، فتذيع وتنتشر ، وتصبح مثلاً يلقى في كل موقف يشبه الموقف الذي سيقت فيه العبارة أول ما سيقت .

        وهكذا يمكن لنا أن نتصور نشأة المثل ، وندرك أنه : قول موجز ، ورد في حادثة ما ، وذاع على الألسنة ، فأصبح يضرب في كل حال ، تشبه الحالة التي ورد فيها .

        على أن من الأمثال نوعًا آخر لم يرتبط بحادثة واقعية ، وإنما ارتبط بقصة خيالية أو حكاية رمزية على ألسنة الطير والحيوان ، ومن اليسير أن ندرك سر ذيوع الأمثال في بيئتنا الشعبية ، فهي بيئة فطرية تغلب عليها الأمية ، وتشتد فيها الحاجة إلى خلاصات التجارب تركز لها ، لتنتفع بها ، وتسير في هديها .

        والأمثال التي هي خلاصات هذه التجارب ، صدرت في أكثر حالاتها عن ذكاء ودقة ملاحظة ، ونفاذ بصيرة ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المثل يرتبط بحادثة أو حكاية ، وأنه كثيرًا ما يتميز بدقة التشبيه ، وحسن التعبير ، أدركت سر ذيوع الأمثال .

        وأمثال الشعوب صورة صادقة لشخصياتها ونزعاتها وأخلاقها وقيمها ، ولو أمعنت الفكر في مثل تسمعه لعرفت وطنه وظروف بيئته دون أن يقال لك .

        فلو قيل لك أن شعبًا يردد دائمًا مثلاً يقول : ” اشنق الألماني ولو كان رجلاً طيبًا ”  فلا شك أنك بمجرد أن تسمع هذا المثل وأنت لك بعض دراية بالتاريخ ستعرف أو سترجح أنه مثل روسي أو فرنسي ، ولكنك إذا أمعنت التفكير فيه تجد طابع القسوة الروسية بارزًا ، وليس الرقة الفرنسية ، فتحكم على الفور بأنه روسي  وذلك هو الصواب .

        وربما تفكر قليلاً لكي تعرف وطن الحكمة القائلة : ” ما أصغر الإنسان إذا لم يستطع أن يرفع نفسه فوق نفسه !”  ولكنك سرعان ما تنتقل بفكرك إلى بلاد الهند ، فتتمثل لك فلسفة قهر النفس أو السيطرة عليها التي ثبت دعائمها الفيلسوف العظيم الزعيم / غاندي .. فعلمهم أن قهر النفس هو الجهاد الأكبر ، فارتفعوا بنفوسهم وسموا بوطنهم .

        ويمر بك عابر سبيل من أحد بلاد الله فيلقي إليك بحكمة يرددها قومه قائلين فيها : ” الحياة للأغنى” فتتعجب لهذا القول المناقض لقول الغرب : ” البقاء للأصلح” .. ولكنك لن تتعجب إذا عرفت أن هذا الرجل أمريكي الجنسية ، وأن عبارة ” الحياة للأغنى” حكمة أمريكية سائرة تتمثل فيها عقلية الأمريكيين والأساس الذي يبنون عليه أملهم في البقاء والرفاهية والاستمرار ، أضف إلى ذلك نهب خيرات الشعوب والسيطرة عليها ، وهم يعتقدون أيضًا أن الحياة والنصر لمن كان له مال وإنتاج يحيه ويحميه .

        وتسمع قائلاً يقول : ” أناقة مظهرك عنوان شخصيتك ” فلا تتردد لحظة في الحكم على هذا المثل بأنه فرنسي ، ضرب في باريس مدينة النور والمدنية والأزياء حيث تحكم المظاهر وتتحكم ..

        والأمثال والحكم المأثورة عند أهل الصين تعد بمثابة الشريعة أو القانون ، يتجاوبون معها ويحتكمون إليها ، ولذلك لم يتخل أهل الصين هناك عن تقاليدهم الخالدة التي تدعو إليها أمثالهم وحكمهم المأثورة ، فتراهم وقد اكتسحت العالم كله ، وبلادهم بالطبع ، موجة التحرر والتقدم والتمدين فصار للمرأة في العالم أجمع دورها الكبير في تنمية المجتمع ورقيه وتقدمه ، بل أصبح لها حكمها النافذ في المنزل والمجتمع ، تراهم في الصين لا يزالون يتشبثون بحكم مثلهم الذي يقول : ” بيت تزاول فيه الدجاجة عمل الديك آيل للخراب !! ”  

        والعرب قوم أولو شهامة ومروءة  وترى شخصيتهم وأخلاقهم جلية في أمثالهم المأثورة من منظوم ومنثور ، فيقول قائلهم : ” خير الناس أنفعهم للناس ، وعند الشدائد تعرف الأخوان  ورب أخ لك لم تلده أمك ” ، وغير ذلك من أمثالهم العظيمة التي تدل على رقيهم الحضري وفكرهم المستنير ، وإن كنا نعرف أن هناك بعض الأمثال التي لا تتفق مع قيمنا وثوابتنا وعلينا أن نغربلها ونكف عنها ونبعد عن الاستشهاد بها .

وقد أحرز العرب قصب السبق بين شعوب العالم في هذه الناحية ، وقد شهد بذلك أهل الاستشراق الذين درسوا أمثالنا من كافة النواحي .

يجمع أهل الاستشراق والباحثون على أن بلادنا أغنى الشعوب بالحكم والأمثال ، فإن ثروتنا منها تفوق ثروة شعوب العالم مجتمعة كما تفوقها في دقة الفكرة ونفاذ التأثير ، وفي أسلوبها الحي الضاحك اللاذع التي تتجلى فيه روح الفكاهة القوية المتدفقة     المتفوقة

        وإليك مقارنات سريعة بين بعض حكم الشعوب وأمثالها مما ترادف في المعنى ، واختلف في التصوير والتعبير لعلها تقوم دليلاً على ذلك .

        يقول المثل الهندي : ” القول الحسن أقطع من كل سلاح ” ويقول المثل الصيني في نفس المعنى : ” كلمة طيبة تملك بها الدنيا” ..  ويورده الروسي بطريقة سلبية ، فيقول : ” لسان الروسي عدوة” .. وينشده الشاعر العربي في شعره داعيًا إليه ، فيقول :

لا خيل عنك تهديها ولا مال

فليسعد القول أن لم تسعد الحال

        ويأتي ابن البلد فيبرز هذا المعنى بأسلوبه الفكه في صورة حية ملموسة من صور الحياة ، فيقول : ” لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك ”  فيجمع بذلك بين شطري الفكرة ، ويبصر بشتى العواقب .

        ويقول أهل السويد في مثلهم : ” الأزهار الجميلة لا تبقى طويلاً ” ، ولكن العامي الساخر عندنا يورد نفس المعنى بصورة ألذع وأوقع ، فيقول : ” عمر الشقي بقي” .

        ويقول الإنجليز في مثلهم : ” أترك ما ليس من شأنك ” ونسمع من العرب نفس المعنى في مثلهم الذي يقول : ” من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه” .. ولكن ابن البلد يصوره بصورة كاريكاتورية حية مستمدة من واقع حياتنا وبيئتنا الزراعية ، فيقول : ” أردب ما هو لك ، ما تحضر كيله .. تتعفر دقنك و تتعب في شيله ”  وواضح أن ذلك ينصب على ما هو من صميم حق الغير الذي لا يصح أن نقترب منه أو نعتدي عليه ، أما ما هو حق المجتمع فللكل نصيب فيه ، وعلينا جميعًا واجب حتمي في الاهتمام به والمساهمة في تقويمه وتنميته

        ويقول الروس : ” أسهل لك أن تملأ عشرين بطنًا من أن تملأ عينين ” .فيطابقه ابن البلد بطريقته الساخرة قائلاً : ” ابن آدم ما يملاش عينه إلا التراب ” و مع ذلك فهو يدعو إلى الإيمان بأن ” القناعة كنز لا يفنى ” ، ويقول : ” الطمع يقل ما جمع ”  وأن ” أكلة هنية تكفي مية ”  بل لا يتم مطلقًا بأن تكرم بطنه مفضلاً أن تكرم نفسه أو روحه بالكلمة الطيبة وسماحة اللقاء ، فيقول لك : ” لاقيني ولا تعديني ” .

        ويؤمن الإنجليز بسياسة الدهاء ، أو ” تمسكن حتى تمكن ” ، فيعملون بذلك المثل الذي كان يردده دائمًا زعيمهم / تشرشل ، فيقول : ” جميل أن تضحك ولكن الأجمل أن تضحك في النهاية ” ويلخص ابن البلد هذا المثل فيقول : ” الشاطر إللي يضحك الآخر ” ، ويقول الصيني في حكمته : ” أحب من يحبك ، وتجاهل من يكرهك ”  فينظمها ابن البلد في موال رائع فيقول :

من حبنا حبناه ..

وصار متاعنا متاعه

ومن كرهنا كرهناه ..

يحرم علينا اجتماعه

وكما يقول فيلسوفنا الشعبي ابن عروس في موال آخر :

قال من داداك داديه ..

واجعل عيالك عبيده

ومن عاداك عاديه ..

روحك ما هياش في أيده

        ولليابانيين مثل يقول : ” حبيبك لا يرى إلا محاسنك ” ويطابقه العرب بقولهم : ” المحبة تداري العيوب ” .

        وينشد شاعرهم نفس المعنى ، فيقول :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

ومرت السنوات لأجد خلال دراساتي للأمثال الشعبية أن ابن البلد يضع نفس المعنى في إطار بارز قريب التناول سريع الوقع ، فيقول : ” حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط ” ، و يقول : ” حبيبك إللي تحبه ولو كان .. قرد ! “

إننا في أمس الحاجة لأن نتأمل وندرس حكم الشعوب وأمثالها لنرى فيها بعض اتجاهاتها الفكرية المختلفة ، ونعرف من خلالها أساس التباين بين الشرق برؤيته الروحانية لهذه الأمثال وتلك الحكم ، تلك الروحانية التي تقدس العقائد والمعنويات السامية رغم كل الظروف والصروف والمعاناة التي يمر بها ، على عكس الغرب الذي مازال يحكم على الأمور عبر الواقع المادي الذي لا يؤمن إلا به .
 
 مصدر الصورة :

زر الذهاب إلى الأعلى